رسالة من الإسماعيلية – استمرارا للتألق فى مراحل الحياة الاولى

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
تعودت دائما التردد على مبنى البنك الزراعي بالمنصورة، ويقع على كورنيش النيل في الجهة المقابلة لمبنى المحافظة من الناحية الغربية، وذلك بعد تنفيذ عمليات متعددة معهم وكان آخرها إعداد وتجهيز خمس وعشرون فرع من بنوك القرى على مستوى المحافظة، وتوطدت العلاقة بينى وبين إدارة البنك والإدارة الهندسية بالقاهرة... وخلال إحدى الجلسات علمت أنهم بصدد عملية إحلال وتجديد لفرع القناة وسيناء بمدينة الإسماعيلية.. ويقع بجوار نادي الشرطة بالحي الافرنجي والمتفرع من شارع الثلاثيني المؤدي إلى مبنى المحافظة.
اطلعت على الإعلان الموجود بالصحف وكان ينص على شروط في إختيار الشركات، على اساس أن تقدم الشركات المتقدمة لتنفيذ المشروع تقرير عن حالة المبنى وهل يمكن عمل تجديد وصيانة أم يتم هدم المبنى وإعادة إنشاء مبنى جديد، وتعتبر من العمليات نادرة الحدوث وتحتاج إلى مكاتب بحوث متخصصة... أرسلت مندوب مباشرة من الشركة لشراء كراسسة الشروط والمستندات الخاصة بالعطاء من مدينة الاسماعيلية وهى من أجمل المدن على الاطلاق، وعند دراسة البنود والمواصفات لفت نظري بند من بنود العطاد ينص علي أنه: من يتقدم للمناقصة لابد أن يكون من بيوت الخبرة وسبق له تنفيذ مثل هذه الأعمال... وعادة عندما يتم وضع هذه البنود: قد يدب الرعب في قلوب بعض المهندسين والشركات المنفذة خوفا من تعرض هذه المباني للإنهيار أثناء التنفيذ نتيجة أي خطأ غير مقصود، او حدوث ما يجعلهم يتعرضون لمشاكل قانونية في حالة عدم التغلب على تلك المشاكل الموجودة في الإنشاءات، وبالتالي يقومون برفع الأسعار بطريقة خيالية لتوظيف بيوت الخبرة والاستعانة بهم في مثل هذه الحالات.
أحسست عندئذ أن هذه فرصتى للفوز بالمناقصة، وكان لابد لي من عمل شئ خيالي غير مألوف لكي أتمكن من المنافسة في هذا العمل الذي لو فكرت فيه بالعقل فقط.. فلن تتمكن من تجاوز أنك شاب مغمور لا يحق لك المجاذفة بكل ما تملك من رصيد وخبرة محدودة وتبدأ من الصفر من جديد.
مرت عليّ فترة من أحلام اليقظة التي كنت أغرق فيها لساعات وهذا الموضوع يروح ويجيء في ذاكرتي، كانت حالة من حماقة الرجاء والجنون، كنت أحيانًا إذا جلست لقراءة المستندات أعلِّق نظري بأوَّل سطر أمرُّ به ولا أنتقل عنه بعد ذلك، وأظل مطرقا في حالة من السرحان لا تنتهي إلا بالتصميم على إستكمال الدخول في المشروع مهما كلفني ذلك حتى لو بدأت من جديد، فلن أحرم نفسي من تلك المجاذفة، وأنتقل من الواقع إلى عالم جميل من عوالم الخيال، وأظل أتغلغل فيه تغلغل طائر النورس الأبيض المحلق في غمار السحب، وتمر بي ساعات طوال فلا أعود لنفسي إلا إذا ناداني أحدهم، فإذا استفقت وجدتُني لا أزال في مكاني وما يزال نظري عالقًا بهذا السطر الذي وقفت عليه، وكلما إبتعدت خطوة رجع لي صوابي خطوتين.
أيقنت أن هذه فرصتي الوحيدة للحصول على المناقصة فأنا عادة أحب التعامل مع هذه الأنواع من المناقصات، ويمكن التغلب عليها بالخبرة الذاتية وعدم الاستعانة بأي شركة أو بيوت خبرة، وبالتالي يكون هناك فرق كبير في أسعار البنود يمكنني من الحصول بسهولة على العطاء... علمت حينها أن سر الفوز بأعظم متعة للوجود هو أن تعيش حياة خطرة، وأن تبني مدنك الخاصة على المنحدرات! وأن ترسل سفنك إلى بحار مجهولة، وأن تجعل من مستقبلك حالة حرب مع زملائك ومع نفسك ! فقريباً سينتهي العمر.
ولكن الصعوبة في إقناع مركز البحوث بجامعة الزقازيق وكان يرأسه في هذه الأوقات الأستاذ الدكتور "مجدي شهاب" عميد كلية الهندسة، من قبول العطاء بدون عمل شئ خيالي لا يخطر لهم على بال، وفي نفس الوقت تقليل تكلفة تنفيذ المشروع بطريقة تغري إدارة البنك من قبول العطاء، لذلك كان لابد لنا من خلال دراسة المستندات من عمل أبحاث وتقديم تقارير تساعد في إقناع لجنة البت بقبول الشركة في تنفيذ المشروع.
قمت أولا بتقديم تقرير بخصوص (ما الذي يتم في حالة عمل إحلال وتجديد للمبنى بمبلغ خمسة ملايين جنيه تقريبا).
وأرفقته بتقرير آخر (أنه في حالة عمل صيانة وتجديد للمبنى بدون هدم وتوفير مبلغ ثلاثة ملايين).. وإقرار ثالث (بتحمل بالمسئولية المدنية والقانونية عن الأعمال خلال فترة الضمان المدني وفي مدة لا تقل عن خمسة عشر عاما من تاريخ التنفيذ، وكذلك تم تقديم تقرير فني باستخدام ماكينة قذف الخرسانة وتسمي (شوت كريت) وبالتالي يمكن عمل طبقة خرسانة لكل العناصر الإنشائية وتقويتها بدون اللجوء إلى أعمال الإزالة، وقدمت كل التقارير مع مستندات العطاء.. إعتبرت أن ذلك من الأسرار الخاصة، ولا تظهر لأقرب المقربين لي.. إلا الجزء الظاهر منها والذي لا يتسبب في معرفة ما يدور بين السطور، وإحتفظت لنفسي بعمقها الذي يستحسن ألا يعرف الجميع عنه أي تفاصيل.
فإن كشفت للناس أسرارك وعمق ما يدور في رأسك، ولو في جوانبها الأكثر براءة وعفوية، فكن على يقين بأنهم سيستعملونها ضدك في الوقت والمكان الذى يناسبهم، وهو ما سيعود عليك بأوخم العواقب، ومن الأفضل أن تحكم عقلك فيما تقوله وفي ما تسكت عنه، وفي ما تظهره وفي ما تضمره.
تم فتح المظاريف المالية في التاريخ المحدد لذلك وبعد الفتح فوجئ الجميع بفرق السعر الخيالي وهاج الجميع وتعالت الأصوات وهنا تدخل المهندس الاستشاري بأن الشركة أرفقت بالعطاء نظام جديد وهو إرفاق مجموعة من التقارير ويلزم عرضها على لجنة فنية من جامعة الزقازيق والادارة الهندسية بالبنك الرئيسى بالقاهرة وإنتهت الجلسة على ذلك.
وفي خلال مدة إسبوعين بعد دراسة العطاءات بواسطة لجنة البت، فوجئت باتصال من مسئول العقود بالبنك يبلغني: أن هناك إجتماع لي مع لجنة فنية في جامعة الزقازيق لمناقشة التقارير التي أرفقتها بالعطاء.
حضرت في الميعاد المحدد لذلك وكانت المناقشات أشبه بمناقشة رسالة دكتوراه، وكان موجود باللجنة الأستاذ الدكتور حسين بندق زميلى بكلية الهندسة جامعة المنصورة لمدة خمس سنوات، وأستاذ الخرسانة بجامعة الزقازيق يرحمه الله، وبعد حوالى ثلاث ساعات تم تبليغى بقبول العطاء الخاص بالصيانة والترميم بشرط قبول خصم مني قيمته "خمسة بالمئة" ليتناسب مع المقايسة التي تم وضعها من قبل المركز... قمنا مباشرة بدفع التأمين وتقديم برناج زمني والتوقيع على عقد العملية وعمل خطة للتنفيذ على ستة مراحل وذلك لعدم إخلاء المبنى وعدم إضافة تكلفة إضافية على البنك.
وذلك على أن يتم تنفيذ كل دور في مرحلة على حده بداية من البدروم وحتى الدور الخامس.
نجحت الخطة وتم تنفيذ الأعمال في المدة المحددة وكانت أول تجربة يتم تنفيذها في أعمال البنك الزراعي ومركز البحوث وقرر مجلس الإدارة تعميمها على باقي فروع البنك لتوفير أكثر من ستون بالمئة من الميزانية المرصودة لأعمال التطوير.. وأعطانا البنك شهادة تقدير. وهنا انوه انه: عندما نريد إستخلاص عبرة من كل ذلك هي: عليك لكي تضمن النجاح مدى الحياة أن تعمل بصدق، وكذلك التحلي بالحكمة يجعلك قادراً على تخطي كل العقبات، ونيل رضا كل المحيطين من حولك، وعليك دائما أن لا تنسى أحلامك وأن تنظر إليها بحرص البحّار الذي يبحر في جو عاصف حين ينظر إلى النجوم التي ترشده إلى طريق النجاة، ثمّ عليك أن تكرّس كلّ لحظة من لحظات حياتك للاقتراب من تلك الأحلام، فلا شيء أسوأ من الاستسلام واليأس.
ولتعلم يا صديقي أن الحياة الخالية من الإثارة لا تُناسِب الشخص الذي خيطَ عَقلهُ بِخُيوط الإرادة، فما عليكَ سِوى أنّ تُواجِهها بقلب شُجاع، حتمًا سَتُروِضُها بِحنكة الفارس الشجاع.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب