رسالة من أبها – اول زيارة خارج البلاد فى المرحلة الاولى

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
كان من غير المتوقع السفر خارج البلاد في ذلك الوقت حيث كنت حققت نجاحات متواصلة في أكثر الجهات منها على سبيل المثال: إنشاء إدارة ومخازن بشركة مضارب الدقهلية، وإنشاد مظلات ومستودعات بالبنك الزراعي، وإنشاء كباري على ترعة البوهية التابعة لإدارة رى الدقهلية... ولكن حدثت حالة طارئة وقتها ادت إلى إرتفاع أسعار مواد البناء وكنت تعاقدت حينها على عمل تشطيبات بمستشفى شربين العام بمحافظة الدقهلية وتوقف صرف المستحقات والمبالغ المالية لحين ورود إعتمادات، وكانت مرحلة شبه إفلاس وفشل بعد نجاح متواصل لمدة سنين.
تذكرت وقتها: أنه دائما إذا أرهقتك الجراحِ فنادي للأمل ببصيص من التفاؤل وإعلم أن للحياة وجه آخر، فكرت في مرحلة من الهدوء والسعادة والثقة فقررت السفر لمدة عام خارج البلاد لتوفير مبالغ مالية وإنتظار الأمر بإستئناف الأعمال في المستشفى.
سافرت الي مطار جدة ومنها إلى مطار أبها جنوب المملكة العربية السعودية وهي من أجمل المدن بالمملكة، تمتاز بجو معتدل خلال الأربعة فصول وكذلك تتميز بتضاربس متميزة، تعاقدت مع مؤسسة تعمل بالخرسانة الجاهزة ورصف الطرق، وإستلمت العمل من مهندس يحمل الجنسية الأمريكية، وكان موجود مهندس مصري يعمل مديرا لمحطة الأسفلت، ومراقب يمني يدير محطة الخلط المركزية .
من اليوم الأول لوصولي قمت بشراء الخريطة الخاصة بمنطقة جنوب المملكة من أبها حتى جيزان، ورافقني سائق فلبيني كان يمتاز بخفة الدم، وقمت كالعادة بتوقيع الخريطة على الواقع والمرور في كل الطرق بالمنطقة، وبعد ذلك قمت بالحصول على رخصة القيادة وعمل برنامج للعمل، بداية من الخلاطة المركزية.
كانت المؤسسة متهالكة، تحقق خسائر يومية بسبب عدم وجود معدات تكفى والسمعة السيئة التي كانت تتمتع بها في المنطقة.
طلبت عقد إجتماع مع مجلس إدارة المؤسسة وكان يتكون من أخوين فوق الخمسين من العمر واولادهم، وتم الإتفاق على عمل تفويض بالإدارة والتعامل مع البنوك والجهات والشركات والعملاء.
قابلت في البداية رفض غير مسبوق من العملاء والذين سبق لهم التعامل مع المؤسسة... ولعلي هنا اتذكر هذه الخبرات التي أحدثك عنها، والتي سوف تطالعك في ساحة العمل بل والحياة منذ الوهلة الأولى... فهى نماذج من البشر عليك أن تحذرهم قدر طاقتك فهم أعداؤك في الحياة، وفي مؤسسات العمل أيًا كان المجال الذي تعمل به، وإذا تغافلت عنهم لحظة فلن تشفع لك خبراتك، ولن تسعك الحياة رغم رحابتها... ودعني أيضا في هذه المناسبة أحدثك عن أنجح المؤسسات في المجتمع: تلك هي المؤسسات التي تضع قوانين صارمة في التعامل مع موظفيها بحيث يلتصقون بها إلتصاقًا لا فكاك منه، عكس النوايا الطيبة لدى هذه المؤسسات والتي تعلنها للعامة، فهم يسيؤون إلى عمالهم بلا رحمة، وهذا ما يطلق عليه (الجانب المظلم في رأس المال)، وليس هذا فحسب فقد تستطيع التأقلم مع قوانينهم دون مشاكل، إذا لم تصادفك هذه النماذج من أفاعي البشر .
فيما مضى كنت أعجب عندما أشاهد بعض العلماء وأساتذة الجامعات يتشاجرون أو يتنافسون رغم أنهم حراس العلم والفضيلة! وتجد بعض الممرضات يتشاجرن وهن ملائكة الرحمة! وتجد ذلك بين أصحاب الأعمال الواحدة حتى يكاد يصدق في الجميع المثل القائل: (عدوك ابن كارك أي: مهنتك)، ولو رجعنا إلى موضوعنا الاساسي بمرور الأيام تم تحسين المنتح وإقناع الجميع بحسن سمعة المؤسسة، وكان الشئ المهم هو زيادة سيارات التوريد حتى يمكن الوفاء بالكميات المطلوبة يوميا بعد زيادة الطلب وهنا حدثت المفاجأة.
زارني أحد الوجهاء في منطقة جبلية لتوريد كميات كبيرة لعمل قصر ولكني فوجئت بمعارضة شديدة من مجلس إدارة المؤسسة فتم عقد إجتماع بالفترة المسائية وعلمت أنه تم فقد أكثر من سيارة في السنوات السابقة بما تحمله من خامات، وفقد السائق والمرافق نتيجة إنقلاب السيارة وهي محملة بسبب ارتفاع منحنيات الطريق بطريقة لا تجعل السائق يتحكم في عجلة القيادة في حالة حدوث فرامل أو سرعة خاصة مع الحمولة التي تتعدى خمسة وعشرون طنا، وطبيعة الخلاطات الخرسانية والتي لابد من دورانها بصورة مستمرة حتى تحافظ على سيولة الخرسانة ووصولها بطريقة مطابقة للمواصفات، ماذا أفعل؟ وكانت هذه فرصتي الوحيدة لتصحيح أوضاع المؤسسة خاصة أن سعر التوريد لهذه المنطقة يزيد أربعة أضعاف السعر في المناطق ذات الطبيعة المستوىة، مما يمكنني من تجديد المعدات وشراء سيارات جديدة والنهوض بالمؤسسة في أقل فترة ممكنة، فقد وضعت خطة النهوض في خلال فترة وجودي وهي إحدى عشر شهرا من تاريخ التعاقد، ولم يهدأ لي جفن طوال الليل حتى صلاة الفجر.
أيقظت عمال الورشة بالمؤسسة وقمت بشراء الخامات المطلوبة للَمجازفة التي سوف تحدث، إما النهوض بالمؤسسة وإرتفاع شأنها أو دخولي السجن وإنهاء مستقبلي، وكنت وقتها في بداية الثلاثينات من عمري، وكعادتي دائما تعودت في هذه الظروف: أنك عندما تحس بشعور مثل ذلك فاعلم أن الليل لن يطول، وأن الشمس سوف تشرق في النهار، وأنك تملك دعوة لن يردها الله لك فحاول أن تحوّل مسار هذه الدعوة من المضرة الى المنفعة.
وعلى كل حال قمت بتصنيع خزانات مياة بكميات تكفى لخلط الخرسانة في فترة معينة ووضعتها فوق الخلاطة، وكذلك إرسال سيارة مياة مع السيارات إحتياطي للمساعدة في سرعة الخلط، بحيث يتم تعبئة الخلاطة خرسانة مخلوطة ولكن بدون إضافة المياة، ويتم بدأ الخلط بعد تجاوز منطقة الخطر على الطريق وهي منطقة الصعود القصوى: أي انه عندما ينتهي المنحنى المتسبب في إنحراف السيارة، يبدأ دوران الحلة وبالتالي خلط الخرسانة على طرق مستوية، وقد علمت بذلك عند إجتماعي ليلا بالسائقين والمشرف على المؤسسة، أن الحادث يتم فقط مع السيارة المحملة بسبب دوران الحلة وعدم انتظام السيارة على الطريق عند حدوث اي طارق مفاجئ، وإتصلت في الصباح بمسئول المؤسسة الذي قابلني بالأمس وطلبت منه مهلة للغد حتى يمكنني التعاقد معه على الكمية المطلوبة، وطلبت منه أن يساعدني بالمقطورات الخاصة بالمياة من المؤسسة التابع لها بمجرد خروجي من المنحنى المرتفع إلى الطريق المستوى، وكذلك دفع مبلغ الخزانات الإضافية التي قمت بتصنيعهاعلي الخلاطات الخاصة بالمؤسسة، ولم يعترض على أي شئ لأعجابه الشديد وتحمسه للفكرة التي قمت بها خلال ساعات قليلة.
تم توقيع العقد وإتفقنا في اليوم الأول أن يتم إرسال سيارة واحدة تحمل نصف الكمية كتجربة أولى.. وفي حالة نجاح التجربة يتم مواصلة التوريد، وفعلا قمت بمرافقة اول سيارة بسيارتي الخاصة وكانت ماركة تويوتا لاند كروزر، مرة أتواجد أمام السيارة ومرة خلفها حتى تم بحمد الله إجتياز منطقة الخطورة وأمرت بعدها بتحميل باقي السيارات ولكن في اليومَ الأول تكون الكمية النصف فقط.
نجحت التجربة نجاح كبير وإنتهى اليوم الأول بخير والحمد لله تسرب الخبر إلى مجلس إدارة المؤسسة، وتم طلب إجتماع عاجل في الفترة المسائية وبعد ألفاظ كثيرة بالتهديد والوعيد قمت بإقناع الجميع بعمل إقرار مني بتحمل المسئولية كاملة عن أي تلفيات في الخامات او المعدات وكذلك الأرواح وانتهى الاجتماع في ساعة متأخرة من الليل.
وفى اليوم التالي تم زيادة الكمية الي سبعون بالمئة من سعة السيارة وتحركت مع أول سيارة حتى إجتازت منطقة الخطر ومع كل سيارة كنت اتحرك خلفها حتى تجتاز المنحنى، وإنتهى اليوم الثاني على بركة الله، بعدها طلب سائقي السيارات مني إجتماع في الفترة المسائية، وكانوا من جنسيات هندية وفلبينية بعدما علموا من المشرف والمحاسب بأنني وقعت على إقرار بتحمل المسئولية، فقد ملأتهم الثقة بعد نجاح اليوم الثاني وإعتمادي مبالغ مالية لهم شبه خيالية، وكذلك من صاحب الشركة المستوردة للخرسانة... كانت مفاجأة لي غير متوقعة عندما قدم كل سائق لي ورقة موقع عليها أنه يتحمل المسئولية في حالة حدوث اي طارئ ويخلي مسئوليتي عن ذلك وقمنا بتناول العشاء معا.
أحسست وقتها لأول مرة بأسرة من بلاد غريبة ولا يدينون بديننا، فما أجمل هذه اللحظات التي تأتيك وأنت في وسط الاشواك، الي روح ضاق بها الطريق، وليس معها رفيق ،فلا تقدُم ينفع، ولا رجوع يشفع، فإن بقيت أهلكها الجوع، وإن قفزت أهلكها الوقوع، وإن حاولت أن تعود فلن تستطيع الرجوع، تلك هي أنفُسنا، فكن على يقين بأن لا ملجأ من الله إلا إليه.
أصبحنا أصدقاء من ذلك الوقت وفي اليوم الثالث تم تعبئة السيارات بالحمولة كاملة وكان مكاني دائما عند منطقة الخطر حتى يتم مرور السيارات على خير في كل مرة... إستمر العمل في المشروع لمدة ثلاثة شهور، تضاعفت ميزانية المؤسسة ثلاثة أضعاف.. طلبت بعدها أجازة أسبوع لعمل صيانة كاملة لجميع المعدات بالمؤسسة، وتم التعاقد على ثلاث سيارات جديدة، بعد ذلك إنتشر الخبر في منطقة الجنوب كلها بأن المهندس المصري نفذ مشروع القصر الذي توقف لمدة خمس سنوات.
في بداية الشهر الخامس: تم الاتصال بي من إدارة مطار أبها الدولي في رغبتهم بتوريد كميات كبيرة من الخرسانة والاسفلت وتم توقيع العقد في اليوم التالي: وقمت باستلام شيك بمبلغ خيالى، وكان تركيزي هو تجديد سيارات الأسفلت وتمهيد الطريق المؤدي إلى محطة الخلط وتسمي (الكسارة)، وأردت أن أنوه هنا الى أجمل أيام عمنرى خلال هذه الفترة عندما تعرفت على من يدير موقع خلاطة الاسفلت وكان يسمى عبد الحميد من أسيوط بجنوب الصعيد، وقد تعلق بى بصورة غريبة وكان يطلب منى أن أذهب اليه كل أسبوع لتناول وجبة الغداء معه بالموقع، ولن أنسى أنه كان يضع نسبه الحراق على الطعام أكثر من الطعام نفسه، ومع ذلك لن أنسى طعم الأكل الذى كنت أتناوله معه حتى اليوم... في هذه الحالة تحس بشعور مختلف وتعلم أن بعض الأمان يكمن في تفاصيل صغيرة وأشياء تافهة لا قيمة لها لكنّها إكتسبت قيمتها ممن لامسوها.
تم بحمد الله تنفيذ مشروع المطار بنجاح منقطع النظير، وفي نفس الوقت قمنا بتمهيد طريق الكسارة وعمل صيانة كاملة لجميع السيارات والمعدات الخاصة بمحطة الأسفلت، وبعد حوالى شهر من التعاقد على مشروع المطار تم التعاقد على أكبر مشروع للمؤسسة منذ نشأتها وهو رصف مجموعة محاور في جيزان بمبلغ "خيالى" فى هذا التاريخ، وإرتفع شأن المؤسسة وأصبحت من أشهر المؤسسات بالمملكة، وهنا حدث ما لم يتوقعه الجميع... فقد قررت النزول إلى القاهرة حيث تم تدبير إعتماد لمشروع المستشفى ولابد من سرعة إستئناف الأعمال أو سحب المشروع، وبعد محاولات من جميع المسئولين باءت جميعها بالفشل كان قراري الوحيد هو العودة في شهر يونيو بعد إحدى عشر شهرا خارج البلاد... والعبرة هنا أنه قد لا تكون الأمور على ما يرام الآن، لكن تأكد أنها ستمضي، وتفاءل دائما بالخير، وأحسن الظن بالله، وبأن ربك سيعوضك خيراً قريباً، فقد تضيق بك وتظن بأنها لن تنفرج أبداً، ولكن كتب الله بأنها ستنفرج من قبل أن تحدث، هذا هو لُطف الله وأنه مُحال أن يترك عبدهُ دون أن يجبر قلبه، ف اللهم درباً لا تضيق به الحياة، وقلباً لا يزول منه الأمل.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب