ذاكرة المكان بين معالم دولة الكويت التراثية والحضارية
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
ما المكان؟
المكان في اللغة: الموضع الحاوي للشيء. وفي علم الفيزياء: هو مُنْفَسَح ثلاثي الأبعاد لا حدود له، تأخذ فيه الأجسام والوقائع وضعًا واتجاهًا نسبيًا. والمكان في الجغرافيا يقصد به: نقطة على سطح الأرض تحده دول مُجاورة أو مُسطحات مائية وصحاري رملية، يحدد هذا المكان بخطوط الطول، ويفصلها خط "غرينتش" شرقًا وغربًا، وتفصلها دوائر العرض شمالاً وجنوبًا، ثم يطلق عليه اسم محدد.
المكان بين طيات الذاكرة:
أمّا المكان في ذاكرة الإنسان فهو الصور التي تختزنها الذاكرة ويُعيدها الشوق والحنين.. هي الأطلال التي يطيل المسافر الوقوف على مشارفها في رواحه وغدوه، يستذكر فيها طفولته الغضة، وصباه الفتيّ، وشبابه الندي، يحنُّ إلى ذرات ترابه، وقطرات بحره، يخاطب حقله المديد، وزهره الزكيّ، وطيره الشادي.. تبكيه الدار وقد خلت، وآثاره كيف قد طُمست! ويشكو للطرقات التي على عهده قد بقيت، أين المعالم التي عرفتها اختفت؟ ويصدح بأن ها هنا كانت دنياي.. في الأشجار متكئي إن ضجرت وفي ثمرهِ مأكلي إن تعبت وفي بذره كم زرعت! وفي ينعه كم قطفت وحصدت! أودعت في الجداولِ زوارقي، واستلقيت في المروج حولي، أُقلب صفحات الكتاب، وأَرسُمُ الهضاب، أحيّي شعاع الشمس الداني، وأناجي البدر الساري، تركت في كل بقعة بقايا خطواتي وبصماتي، دمعاتي وعبراتي، ضحكاتي وبسماتي. فحقيقة الأمكنة توجد في طيات ذاكرتي وبين ذكرياتي، وهل يحيا المرء إلا في الأمكنة والوجوه، وبالذكريات والآمال؟
دولة الكويت:
عندما أردت الكتابة عن المكان لذاته، للديار وما احتوت، كانت "دولة الكويت" أول خاطرٍ، فلم تزل كل ذكراها عالقة في ذهني منذ الطفولة، فهي قريبة القلب والمسافة ، ليس فيها شيءٌ بعيد أو غريب.. تبعد عن منطقتي الصغيرة مسافة قصيرة للحدِّ الذي نستطيع السفر إليها في الصباح والعودة ليلاً ، لذلك كثرت زيارتنا المتفاوتة إليها.. الكويت تلك الدولة التي أحبها وآلفها، لقد كان إليها مفرّي وفيها متنفسي، وكانت شاهدة على طفولتي، على أفراحي كلها وأتراحي، كانت مستودع أسراري وأماني، بهجتي وسروري، فيا لها من دولة وديعة بديعة، بحدائقها الغناء وأفنانين أشجارها وتغاريد بلابلها، وقد تزينت الأرصفة بألوان زهورها.. سماؤها صافية وشمسها ساطعة، تقرأ في طرقاتها وضواحيها حكايات مَن مرُّوا، ممزوجة بالبطولة والصمود، وثّقها التاريخ بالعزة والكرامة. عند الوصول أكثر ما جذبني هي المآذن العالية الشامخة والمباني الشاهقة "ناطحات السحاب" وينحسر بصري عن قمتها التي تعانق السماء، فكنت أعدُّ في سري كم عدد الطوابق ربما: ثلاثين، خمسين.. بدت لي أكثر من ذلك بكثير، وأبراج الكويت أكثرها علوًا ووضوحاً، فهي ثلاثة أبراج تتوسطها دائرة كروية كبيرة الشكل، ويعدُّ هذا البناء رمزًا للدولة. وتشتهر بالمسجد الكبير الذي بُنيت مآذنه على التصميم الأندلسي، وزخرفت جدرانه بالنقوش الإسلامية والآيات القرآنية، ويتسع لما يقارب تسعة عشر ألف مُصَلٍ ومصلية، وأُلحق بالمسجد مكتبة ضخمة للعلوم الشرعية، تضم كتب الفقه والتفسير والحديث.. أتذكر في ساحاته وجوانبه ما قرأت عن جوامع الأندلس وحلقات الذكر.. تلحقُ به المدارس التعليمية والمكاتب الممتلئة، وتتوسطه الحدائق ونوافير المياه.
سوق المباركية:
وفي أول محطاتنا كنّا نتمشى في سوق "المباركية" قلب الكويت التاريخي، ويقع في وسط العاصمة.. إنه امتزاج التراث بالحضارة؛ يمتزج فيه الماضي بأصالته والعصر الحاضر بحداثته، فهو منارة ومعلم شهير يقصُده السائح، ولا يستغني عنه المواطن، يمتاز بتصميمه العريق الذي تتنفس فيه عبق الماضي، حيث بُنيت الأسواق بشكل دكاكين صغيرة مصفوفة بجانب بعضها، مُتقابلة في صفّين، وقد عرض البائعون الألعاب على أبوابها، وبسط آخرون الحلوى الشعبية أمامها.. والقسم الآخر يضمّ كمية وفيرة من الخضرة الناضرة، واللحوم والأسماك الطازجة، وتنتشر فيه المقاهي والمطاعم المفتوحة التي تتماشى مع تصميمه العتيق، وتغطي السوقَ الأسقفُ الخشبية التي تقيه الحرارة صيفًا والبرد شتاءً بأشكال هندسية مميزة، وقد احتفظ بأشكال الممرات القديمة. كما يحيي السوق المناسبات الرسمية، والاحتفالات الوطنية، والمواسم الدينية، فالحركة فيه سريعة لا تتوقف، تضج بالحياة، فالصخب يعلو، والضجيج يملأ المكان، والأصوات تتداخل، والروائح تمتزج، وأنا بدهشة الطفلة تجذبني الألوان المتعددة من كل شيء، فقد تنوعت المنتجات وتعددت المعروضات، فهذه محلات المجوهرات للذهب اللامع واللؤلؤ الساطع، وأخرى للملابس والأقمشة، ومحلات للصرافة، وأخرى للعطارة، وغيرها الكثير، فهو يشكّل نقطة الالتقاء بمختلف الجنسيات والفئات العمرية، ويمثّل هذا السوق هوية الكويت التاريخية العريقة. أما المجمعات التجارية الحديثة فقد كانت مختلفة، فهي فسيحة على مدّ البصر، هادئة، منظمة ومرتبة، اختلفت صادراتها وكثرت وارداتها، وتوزعت على الأقسام والطوابق، بتصميمٍ عصريٍّ متكامل المرافق، مُيسّر لكافة الخدمات، ورغم نشاط الطفولة كنت أُجهد من النَصبِ واللعب.
مكتبات الكويت والقصور التراثية:
وُجِدت أيضًا المكتبات العامة بالقرب من المواطن ، فهي مَعلم بارز في جوار الجمعيات التعاونية والمساجد في جميع المناطق، وهي مؤسسات شعبية تثقيفية مجانية، تسعى لنشر الثقافة، وإكساب الخبرة لروادها، وإنارة الطريق للمتعلم، ينتفع بها الأريب، ويقرأ فيها الأديب، وهي الجليس الأنيس لكل فصيح، كما قدمت خدماتها المكتبية للأطفال من خلال الأنشطة القرائية، والعروض المسرحية، والورش الفنية، وكانت رائدة في هذا المجال. إلى جانب ذلك هناك مكاتب تراثية تضم الكتب القديمة، والمتاحف التي تتنوع فيها الأعمال النادرة، والصور التذكارية، والعملات المعدنية، والعديد من المخطوطات اليدوية، والمجلات في المجالات العديدة، وكانت دولة الكويت من أوائل دول الخليج في افتتاح المكتبات التجارية، وتعد الثانية بعد دولة البحرين في تأسيس المكتبات التجارية ممثلة في "المكتبة الوطنية" وتعرف باسم "مكتبة الرويح". ثم تابعت بعد ذلك مسيرة معطاءة مثمرة اهتمت فيها بالتراث والمتاحف، والمكاتب، والكتاب، والكتّاب، وامتدت إلى القصور التراثية المشيدة من الطين، والأسقف والأبواب الخشبية المقوسة، والأسوار الملتفة، والنقوش التاريخية، والزخارف الإسلامية، كقصر نايف الذي يزيد عمره على قرن من الزمن، وقصر السيف بفنائه الفسيح، وأروقته الواسعة، وأعمدته المتينة، وقصر بيان الذي يُعد تحفة فنية معمارية نفيسة، يمكن التجول في داخله ورؤية الحجرات الملكية، والقاعات الاحتفالية بجدرانها المنقوشة، ومن أسقفها تدلت السلاسل الذهبية تحمل الثريات البهية، وأثاثها الخشبي بتصميمه التقليدي، وما تزين به من التحف والكنوز، إلا أن قصر الحمراء تفرد في بنائه، فترى على البعد أعمدته العتيقة الحمراء، وقبابه العالية الشَّمَّاء، ويروي هذا البناء حقبة من أحداث التاريخ، وفي جوانبه حجرات متقابلات تعلوها قباب مشرفات، بلغ عددها ثلاثاً وثلاثين غرفة، ما بين الغرف الملكية، وغرف الخدم، وغرف الضيافة، وتنوعت المعروضات فيه بين الأسلحة القتالية والأعمال الفنية، والمنحوتات التمثيلية، ومقتنيات الأسرة الحاكمة، ويطل القصر على حديقة رحبة. هذه القصور وغيرها الكثير متاحف تحكي لنا قصة وفاء الأمكنة لمن بناها وشيّدها، فظلت محتفظة بعهدها معهم، شاهدة على أصحابها وزمانهم.. في هذه الآثار يجتمع الزمان والمكان، فأنصت إلى صفير الرياح يصوّت فيها، وأحس ببرودة جدرانها، فكأنما هي قائلة: هذه آثار من مضوا، هنا ذكرى الآباء والأجداد، هنا عقدوا الاجتماعات، وتبادلوا العلاقات، ووثقوا العهود، وأبرموا العقود، وتلك حجرة الضيافة، وفي الفناء لعب الصبية والأطفال.
الحدائق الغناء:
أمّا ما كان يعجبني حقًا فهو الحديقة الشهيرة، ذات المساحة الشاسعة، والظلال الوارفة، والروض الزاهر، التي تضم أكبر نافورة راقصة مشعة بالألوان البهيجة، وحديقة الشهيد الخضراء ذات النباتات الجميلة، ومسارات الجري، والبحيرة الصناعية، يلي ذلك حديقة الحيوان للحيوانات الأليفة والشرسة وحتى النادرة، وقد أَعدت لكل حيوان مسكنه الذي يشبه بيئته الطبيعية. وأكون في لهفة لسوق الطيور، فبه طيور كثيرة ملونة، مختلفة الأنواع والأشكالِ والأحجام، تغرد بألحانٍ شجية عذبة، بألوان الحب الندية ، وتتخيل أنها تحلق بعيدًا عن القفص! تنتقل من يد صاحبها إلى كتفه، وقد تمكث فوق رأسه، وتستطيع أن تطعمها بيدك، وتستجيب إلى نداء صاحبها.. إنها تألف البشر ولا تخاف منهم، وفي الداخل أقفاص صغيرة، بداخلها طيور حديثة الخروج من البيض، عندما رأيتها اتخذت القرار فيما أريد، وانتهى الأمر وأنا احتضن القفص وبداخله طيري الصغير، سأعطيه اسمًا يناسبه، وأطعمه، وأهتم به، فيكون ذكرى من هذا المكان، أراه معي في المنزل فأتذكر الكويت.
بحر الكويت وجزرها الهائمة:
قبل الوداع يطيب لنا أن نذهب إلى تلك المقاعد الحجرية بمحاذاة البحر، فأحب رؤية لألاء مائه، وسماع ارتطام موجه بالصخور، واستنشاق رائحته المميزة التي تسري مع نسيم الهواء مترقرقاً على صفحات الماء، والشمس تستعد للرحيل عن كبد السماء ليظهر الشفق، وتتدرّج الألوان في منظرٍ بديع، فسبحان البارئ المصور. كما حظيت الكويت بجزر عائمة، كأنما هي درر منثورة في وسط البحر، وقد طوقتها المياه من كل جانب، تشبه بذلك النجوم المتفرقة على صفحة السماء، أو الكواكب المبعثرة في فسيح الفضاء، لا بد أنها ساكنة، وبوسعك أن تسمع حركة الشُّعب في أعماقها، وأن تبصر البحر غاية منتهى بصرك أينما وليت وجهك، ستحيط بك الطيور، ولعلك تأخذ عزلة انفرادية هادئة، قد تغفو في أحضان الجزيرة، أو تلهمك الطبيعة والبيئة الخاطفة من حولك لتكتب أول قصة، ولعلك تفضل أن تركب القارب وتتجول في الأرجاء، أو تتقفى الآثار من حولك، وتمشي على رملها الأملس الرقيق، وتتلمس التفاصيل الدقيقة، ولعلك تكتشف لغزها الفريد. وتعد بعض جرز الكويت معلماً تاريخياً لما تحوي من الكنوز الأثرية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد. يشتهر بعضها بصنعة الفخار، وفي أغلبها محطة استوطنت فيها الطيور المهاجرة النادرة مثل الفلامنجو، وأمّا تربتها فهي رملية ناعمة، ومياهها زرقاء صافية ونقية، وشمسها دافئة، تنمو فيها الشعب المرجانية، وتزخر بالحياة الفطرية تحت الماء، فتكثر فيها الأسماك والسلاحف، وتستخرج من بعضها اللآلئ البراقة، وأشهرها جزيرة "فليكا" التي تحمل حضارات بلاد ما بين النهرين، وهي سابقة في تأسيس أول حضارات الخليج العربي، والجزيرة الخضراء التي تبعد فيها عن ضوضاء الحياة، وتنعم بهوائها العليل، وتحيط بها مناظر آسرة تدعوك إلى التأمل والتفكر.
عند العودة أتساءل هل تنسى المدن أحبابها إن غابوا؟ هل يذكر البحر طفلته التي كانت تلهو عنده، وتلاعب بيديها أمواجه، ولا تنسى أن تطبع آثارها على شواطئه الممتدة، أو تجمع الأصداف المنثورة المكنونة في بواطنه.. هل ينسى؟ لا، لا ينسى! فالأماكن -كما يقولون دومًا عنها- لا تنسى زائريها، وتحتفظ بذكرى كلّ من مرّ بها.
ترى في الكويت الدولة بتقدمها الهائل، والبلدة العريقة بتراثها الأصيل، من حولها ترى تلال الرمال تموج موج البحر، ستلوح لك الأودية القاحلة وصخورها المتراكبة، والنخلات الباسقات، سترى التلال الفاتنة في الليالي الساجية ذات النجوم الساهرة. الوداع يا كويت.. لكِ مني التحايا.. الوداع للديّار، الوداع للدار، الوداع للبحر الساحر والموج الهادئ. الوداع لسوقك وطعامك، الوداع لقصرك الحاني، الوداع لروضك الزاهر. الوداع للأصحاب، والوداع للأحباب، سأبقى أناجيك في ذكريات الوصال.
الأماكن علاقتها بنا متجذرة بعمق، ربما لا ترى إلا قليلاً، لكنها ستمنحك الكثير، ليست فقط ذكرى صورية؛ بل ومشاعر نفسية، لطالما كانت الكويت هي الأثيرة لدي من بين الأمكنة، تبعث في نفسي المسرة، وراحة البال، وخفة النفس، وصفاء الذهن، فلكِ مني ألف سلام..
الأماكن نسكنها فتسكننا.
سهام الملحم
كاتبة في أدب الطفلخريجة بكالوريوس رياض الأطفال مع مرتبة الشرف الأولى مدربة طفولة "ورش و برامج قرائية" مهتمة وكاتبة في أدب الطفل هاوية للفن والرسم حاصلة على العديد من الجوائز المحلية في مجال الكتابة الأدبية
تصفح صفحة الكاتب