
لا تدري ما أصابها هي في حيرة من أمرها لابد بأن هناك ما ينقصها ولكن لا تدري، حصلت على الشهادة الجامعية من سنين وتقدم لها خطاب كثيرون لطلب يدها، ولكن قلبها مغلق لا يمكن فتحه لأي رجل ولا تدري سببا لذلك، كلما توسّدت عقلها تبكي، لقد سرق الزمان عرسها، تتناسل حدود السؤال، فينبت وجع في الجدار، تعفّر وخزاته قدرها، يعربد عريه في عزلتها، يتثاءب صمتها، يسقي آهة من أنينها، ينسج نبوءة معقودة بخيط من دمها... كلّما ضاجع شكّها سطرا من يقينها، تُعلّق تمائم امّها المتأرجحة على جيد الخارطة، فيفر التّاريخ أخرس من قبرها، تحاصره مفاتيح العودة، تطارده الكلمات مشوّشة، تعجن أسئلتها و ترحل راكضة حيرتها تجرّ خطاها وتكبو، ثمّة لغة تتسكّع بين شفتاها، تشرّد هناك يكون صراخ طفل، يعير جلده للريح، يمشي بلا قدمين، على جرح خائن أهبه صوتا بجناح لا يخشى الغزاة، أعلق جناحه الآخرعلى شرفات سؤال، لا يخشى دمع الطّريق، فمن يمشى في طريق الفعل لا يسقط أبدا... لا عبرة في السقوط عندما أتت العالم وجدته واثقا، يجالس إفتراضات قديمة، لقد نامت الأسئلة في قبر بلا نوافذ، اتّجه اليقين إلى سريري، أطرده شكّي وهدم كل عقائد الشيوخ الواثقين، سقى معنى الحياة بعضا من جنوني، أنبت للحكمة جناحين من سؤال ومن العبث، رسم أزقة مارقة، توقد نار غوايتها دفء جليدي لا تكفّ القصائد عن البكاء، حتى نمدّ في الوجود سطرا حائرا من يوقف نزف الخارطة؟.
ما زلت ألهث خلف السّطر حتى تعثّرت، حتى سقطنا معا في ذهول المعنى، لقد أصبح فؤادها كالقالب، ذكرى ذكرى منقوشة فيه، ندبة ندبة تتحسسها فتتوجع منها روحها، نقوش مبهمة، هؤلاء الذين مروا من بين ضلوعها، ولن تفنى أبدًا تلك العلامات إلا بموتها، ليتها تنام طويلًا وتنسى كل شيء في الصباح.
وماذا عن الذكريات المؤلمة أليست أمرًا يلتصق بك، ينغص عليك حياتك في كل نازلة سلام، في كل نسمة هواء تعرف عيناك نفس الوجه الذي تسبب في جروح التأمت على الكثير من الوجع، صفعة قاسية، خيانة صديق، قسوة أحدهم هنا، خوف شديد هناك، موت حبيب، ضياع شيء تحبه، الكثير من الفشل، بعض المواقف التي أهانك الناس فيها أو تجاهلوك أو طعنوك من الخلف، بينما أجمل ذكرياتك هي التي عشتها معهم هم أنفسهم في لحظات أخرى، فتخشى أن تتحسس تلك الذكريات الحلوة لأن الألم قابعٌ في أدنى بقاع نفسك يلملم أطرافه ويخبىء رأسه، خوفًا من أن يُطلّ الجانب الآخر في تلك المنحنيات المؤلمة وتجترّ الألم، وكلاهما ملتصقان للأسف.
وفي ليلة من ليالي الربيع تخبرها أمها أنه يوجد من يريد رؤيتها إنه حاصل على شهادة الدكتوراه في الادب الإنجليزي، قضى حياته الأخيرة خارج البلاد كان وسيما، عمره في أواخر الثلاثينات، وهي في نهاية العشرينات.
رفضت طلب الأم في البداية فهي ليست على إستعداد لمشاهدة أي رجل، وإن قابلته لن تكون لطيفة معه، إنها لا تريد أن ترى رجلا غيرأبيها، الذي توفي في حادث وهو يرافقها في إحدى السفريات إلي أحد المصايف من عشرة أعوام، وليس لها أخوة، وتعيش مع والدتها منذ ذلك الحين وتعتبر كل الرجال سيئون.
حاولت معها الوالدة لمقابلة الضيوف وخرجت تحت إلحاح شديد، بخطى متعرجة، وقلب يقفز فرحًا ويهيم شوقًا عادت أدراجها، أقبلت نسمات الهواء تلثمها على وجنتيها لتهنّئها، قرأت أمها البُشرى على وجهها فأدركت ما ظهر على إبنتها المدللة التي تبدلت بها الأحوال في لحظات.
كما تبيّنت الفرحة وهي تُطلّ من عينيه، رحل الحزن والألم وأشرقت الشمس، ظلت تتابع حوارهما بغريزة يقظة وشغف عميق، ما أروع الحبّ عندما يولد من أول نظرة، لقد أخرجت كل ما تحمله من مشاعر دفعة واحدة، عَشِقتُ الكون منذ أن علِمتُ أنّ أنفاسك به تمتزج، روحاً تشبعت بك عشقاً، كيف لها أن تحيا بعيدة عنك، ربما أعيش دونك ولكن كالأموات، لست أمامك، ولا أنت بجواري، وفي صباحي لا أقابلك، وفي مسائي لا تحضر، مع ذلك تسكن أفكاري، وأيضاً أحبك، كنت أتظاهر بالقوة، وحيـن أتي ذلك الإشتياق نسيت من أكون، لمعة العين عند رؤيِة من تحب، هي الأبجدية التي لا تنطقها الشفاه.
إنّ المرأة العظيمة تُلهم الرجل العظيم، أمّا المرأة الذكية فتثير إهتمامه فقط، بينما المرأة الجميلة لا تحرك في الرجل أكثر من مجرد الشعور بالإعجاب، ولكن المرأة العطوف، المرأة الحنون، وحدها التي تفوز بحب الرجل العظيم في النهاية.
قالت: ظلت والدتي تحاول إقناعي حتي بلغت الثلاثين، وكنت في كل مرة أرفض لأسباب غريبة وهمية ولكن كنت لا أدري سببا لذلك حتى وقعت عيني عليك، فتذكرت بأنك كنت السبب المباشر لكل ذلك الرفض، والحمد لله أن أصرت والدتى على إستقبالك هذه المرة دون الإستماع لي، وحاولت كثيرا أن أجعلها ترفض هذه المرة، فكرت في ألف طريقة وطريقة، بحثت في النت عن كيف تطردين عريسا من أول يوم ، كنت كمن يجهز نفسه لحرب يريد الفوز فيها مهما كان الثمن غاليا... وعندنا لمحتك من نافذة غرفتي وأنت تخطو بثبات نحو مدخل بيتنا مع بعض من أفراد أسرتك، لفت انتباهي هندامك المتواضع، وإبتسامتك الجميلة ومع ذلك بقيت مصرة على رفضي لك، أخبرتني والدتي أنك تطلب رؤيتي فقط لكي نتحدث ولي حرية التصرف في القبول أو الرفض، وما أن دخلت غرفة الضيوف وجدتك هناك بمفردك، تبتسم وتنادى علي بإسمي ولقبي، إستغربت الأمر وسطرت ذاكرة الماضي لأجدك تتربع في مخيلتي من أيام الجامعة.
قال: كنت أعلم أنك لا تتذكرينني، لكني أتذكرك من أيام إمتحان اليسانس وفي قاعة الإمتحان، الطاولة الثالثة جهة الباب، بكاؤك في كل الأوقات.
وحسبت في البداية أنك تبكين بسبب صعوبة الامتحان، حتى أدركت أن والدك توفي في هذه الأيام، فحزنت لأجلك، شعرت بك وتعلقت مشاعري ولم تخرجي من قلبي.
قالت: حدثت نفسي والدموع تنهمر من عيني مضى وقت طويل لم أبكي فيه أمام شخص غريب، فبعد وفاة والدي عزمت أن أكون قوية ولا أضعف أمام أحد ولا حتى أمي، فالعالم في الخارج لا يرحم، لكن كلماتك جعلتني أشعر أن والدي قد عاد للحياة مجددا، وأنه يمسك بي ويسندني حتى لا أقع، أنه بات من حقي اليوم البكاء مجددا كطفلة دون أن أشعر بالضعف أو الخجل... ثم إبتسمت وسألته: ماذا عن شروطك أنت؟... قال: شرطي الوحيد هو رضاك أنت... أنا أعرفك بما يكفي، أعرفك ربما أكثر من نفسك، أعرف ما يسعدك وما يبكيك، ولقد صبرت طويلا حتى أصل إليك وهذا كاف جدا ليخبرك أن قدومي إلى هنا يعني أنني موافق عليك كيفما كنت وعلى أي وضع.
والعبرة هنا أن تذكر نفسك أن مُبتغاك ليس بعيدًا، وأنك قد تخطو اليوم خطوه لتحقيق حلمك، فيخطو إليك خطوتين في المُقابل، وحتى وإن لم يحدُث ذلك، فيكفي أنك بخير وتحاول، ومهما حدث لا تفقد الإيمان بنفسك، ولا تفقد الأمل بالصباحات الجديدة، عسى أن يأتي يومًا يُنسينا قُبح الأمس، ونجد في ضوء نهاره ما غاب عن أعيننا وسط ظُلمة الليل، وأن حلاوة الظفر تمحو مرارة الصبر.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب