دور التعليم في ترسيخ الثقافة الوطنية، (دراسة مقارنة بين دولتي مصر وتونس)
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولالثقافة تُعَدُّ عَنْصَرًا هامًا وضروريًا في حياة الإنسان، حيث تُعَتَبَرُ أحد المفاهيم الأساسية التي تُشكِّلُ أسس العلوم الإنسانية، مثل علم الاجتماع بشكل عام، وعلم الأنثروبولوجيا الثقافية بشكل خاص. الثقافة الإنسانية لا تنشأ بالصدفة أو نتيجةً لعقود، بل تُعتَبَرُ تَرَاثًا اجتماعيًا يُعَبِّرُ عن إنجازات الإنسانية. تعبِّر الثقافة الإنسانية عن الأفكار والاتجاهات التي يتعلمها الفرد من خلال تفاعله مع المجتمع، وبالتالي تلعب دورًا هامًا في إثراء الحضارة وتعزيز الوعي الاجتماعي.
تتضمن الملامح العامة للثقافة عناصر مشتركة يتفق عليها أفراد المجتمع، سواء اختلفوا في آرائهم أو مواقفهم أو مكان إقامتهم داخل المجتمع نفسه. هذه العناصر المشتركة تشكل ثقافة جديدة مستمدة من التراث الأصيل للمجتمع، وتُعْرَفُ هذه الثقافة باسم الثقافة الوطنية، التي تُعبِّر عن الاتجاهات الفكرية لأفراد المجتمع وانتمائهم وموقفهم تجاه وطنهم.
نظرًا لأهمية دور الثقافة الوطنية في بناء السلام الاجتماعي والحفاظ على مكانة الحضارة الإنسانية، يجب تعزيزها من خلال السياسات التعليمية. فالسياسة التعليمية تُحدِّد إطار التعليم بوضوح، بمبادئ ورؤى تحدد فلسفة العملية التعليمية وأهدافها. وبالنظر إلى روابط التاريخ والثقافة بين مصر وتونس، يجب تحليل دور الثقافة الوطنية في النظام التعليمي لكلا البلدين، ومن ثَمّ التوصُّل إلى نتائج وتقديم توصيات تُعزِّز من فلسفة المشترك الثقافية بينهما كدولتين عربيتين لهما نفس اللغة والدين.
المحور الأول: الاختلاف بين الثقافة بشكل عام والثقافة الوطنية:
تُعتبر الثقافة بشكل عام نظامًا يتألف من مجموعة من المعتقدات والإجراءات والمعارف والسلوكيات التي يتم تشكيلها ومشاركتها ضمن فئة معينة، وتمتلك تأثيرًا قويًا على شخصية الفرد وسلوكه.
وتُظهر الثقافة مجموعة من السمات التي تميز أي مجتمع مثل الموسيقى والفنون والدين واللغة والأعراف والعادات والتقاليد السائدة والقيم وغيرها. في حين أن الثقافة الوطنية تُعتبر جزءًا من الثقافة العامة للمجتمع، حيث تحتوي على جوانب فرعية مشتقة من الجوانب الرئيسية للثقافة العامة للمجتمع، مثل موقف المجتمع من الاستعمار أو مستوى التطور الحضاري والسلوكي للفرد الذي يُعتبر جزءًا من شخصيته بسبب عوامل التربية والتنشئة الاجتماعية. وقد تختلف الثقافات داخل الوطن تبعًا لعدة عوامل مثل طبيعة الإقليم الجغرافي واختلاف الأذواق والتفضيلات، مما يؤدي إلى تنوّع جوانب مثل الفن والموسيقى. يُستمد أساس الثقافة الوطنية من عدة جوانب، من أهمها القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية والأخلاقية التي يتفق عليها جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العوامل الجغرافية، إلى جانب تاريخ الوطن والذي يُعبِّر عن الهوية القومية للأفراد.
جوهر الثقافة الوطنية:
تُتجلى ثقافة أي شعب في السمات الأساسية التي تكوِّن وجدانه، وتُعكس مدى صلابته، وتَحدد كيف يُفكر وكيف يُواجه الأزمات، وكيف يعبر عن موقفه. إذ لا يمكن للثقافة أن تتجنب المشكلات والهموم الحقيقية للناس، بل تَعكس روابطهم الأساسية وتطلعاتهم المستقبلية. إن جوهر الثقافة الوطنية يكمن في الوعي التاريخي للعصر والواقع، وفي إدراك حقيقي للأخطار والتحديات.
تتمثل أهمية التنمية الثقافية في المجال التعليمي في تطوير العادات الخاصة للطلاب، حيث تلعب دورًا توجيهيًا في تنمية مهاراتهم لتحقيق أهداف مشتركة، وتوحيد العادات التي تجمعهم كمجموعة واحدة. وتزيد الثقافة المعرفية من الطرق التي يتفاعل بها الطلاب مع بيئتهم وتحكم حياتهم الشخصية. بالإضافة إلى أنها تساهم في تطوير الحضارة الإنسانية وتحقيق الإنجازات في مختلف المجالات. وتسهم التعليم بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز وترسيخ الثقافة الوطنية لدى الطلاب من خلال العديد من الآليات التنفيذية والسياسات.
وتركز المنظومة التعليمية على تعزيز كافة جوانب الثقافة الوطنية، بما في ذلك اللغة والتاريخ والآداب والفنون، من خلال تعميم سياسات التنمية الثقافية للطلاب على مستوى كافة الجوانب المنظمة للعملية التعليمية. تساعد المناهج الدراسية الطلاب على أن يصبحوا مواطنين مفيدين لمجتمعهم بشكل أفضل؛ كما تساهم الأنشطة التعليمية في تعزيز المشاركة المجتمعية للطلاب وتثقيفهم حول المسائل الاجتماعية والسياسية.
وتهدف التنمية الثقافية إلى تعزيز الثقافة القومية للفئات المستهدفة بالتطوير؛ وذلك من خلال تطوير القيم والمعتقدات وتوجيه السلوك الاجتماعي، بحيث يلتزم المجتمع بالتراث الثقافي للثقافة الوطنية. وتشمل آليات تحقيق التنمية الثقافية من خلال التربية والتعليم تعزيز دور اللغة في نشر الثقافة وتدعيمها، إعادة هيكلة المناهج والبرامج الدراسية، وتشجيع حركة التأليف والترجمة ونشر الأعمال الأدبية والفنية المختلفة، بالإضافة إلى توظيف وسائل الاتصال التقنية في نشر القيم الثقافية.
المحور الثاني: الثقافة الوطنية في المنظومة التعليمية بين مصر وتونس
أولاً: الثقافة الوطنية في المنظومة التعليمية التونسية:
يختلف وضع المنظومة التعليمية في تونس كثيراً عن وضعها في مصر. فمفهوم الثقافة الوطنية في مصر واضح بشكل نسبي، والجدل حول آليات تعزيزها يعبر عن التكامل فيما بينها. بالإضافة إلى السعي المستمر من جانب الخبراء والباحثين والأكاديميين نحو تأثير صانعي القرار من أجل تحقيق التوصيات اللازمة لإصلاح وضع المنظومة التعليمية المصرية وفقًا للثقافة الوطنية.
أما المنظومة التعليمية في تونس، فأساسها يحمل عدة عوامل ضعف، منها افتقارها إلى رؤية واضحة لمفهوم الثقافة الوطنية بسبب استمرار تأثير الاستعمار الفرنسي على الجوانب الثقافية والاجتماعية في تونس.
على الرغم من جهود الحكومة التونسية منذ عهد الاستقلال، إلا أن ذلك لم يتم برؤية واضحة أو فهم دقيق لملامح الثقافة الوطنية.
وتتجلى محاولات تعزيز دور التعليم في ترسيخ الثقافة الوطنية في صراع شديد بين السلطة التونسية والمعلمين والتلاميذ في مختلف المدارس، نتيجة لغياب بيئة مناسبة لترسيخ الثقافة الوطنية في المنظومة التعليمية بسبب تدهور وضعها ومعاناة الطلاب والمعلمين من مشاكل تشكل عوائقاً خطيرة تقف أمام إصلاحها.
تتجلى عوامل الضعف والتدهور في المنظومة التعليمية في عدة نقاط، منها عدم استقرار وضع لغة التعليم في المدارس التونسية، وتدهور أوضاع المنظومة التعليمية بسبب ثورة الربيع العربي وتداعياتها. كذلك، هشاشتها في مواجهة الأزمات بالإضافة إلى عدم التجانس بين السياسات العمومية في مختلف قطاعات الجمهورية التونسية، وعدم الاهتمام بأمور التربية والتعليم من الجانب الأكاديمي والتدريبي.
ثانيا: وضع الثقافة الوطنية في المنظومة التعليمية المصرية:
رغم التشابه بين منظومتي التعليم في مصر وتونس من حيث الإهمال والخلل في معظم الجوانب، إلا أن أسباب هذه المشكلة تختلف بين البلدين. في تونس، يُعزى تدهور المنظومة التعليمية وغياب دورها في ترسيخ الثقافة الوطنية إلى ضعف الرؤية المفهومية للثقافة الوطنية وتدهور الأوضاع العامة ومعاناة القطاعات الاستراتيجية من آثار الاستعمار الفرنسي. أما في مصر، فإن الجدل بشأن مفهوم الثقافة الوطنية قد انتهى منذ فترة طويلة، وهناك سعي دؤوب لصياغة توصيات فعّالة لترسيخ الثقافة الوطنية من خلال المنظومة التعليمية والتأثير على صانعي القرار.
تتمثل عوامل الضعف والتدهور في هيكل المنظومة التعليمية المصرية في عدة جوانب، حيث تركز الدولة وزارة التربية على الشكل أكثر من المضمون. ينص الدستور المصري في المادة رقم 24 على أهمية اللغة العربية والتربية الدينية في التنمية الثقافية، ومع ذلك، فإن السياسات التعليمية تتعارض مع هذا النص، حيث يظهر ذلك جليا في قانون التعليم الصادر بالقانون رقم 139 لسنة 1981م، حيث لا تُضاف درجات مادة التربية الدينية إلى المجموع الكلي لدرجات الطالب، مما أدى إلى انخفاض مستوى الاهتمام بها وتأثير ذلك على أخلاق الطلاب.
كما أن تدريس مادة اللغة العربية لم يتغير منذ أكثر من 10 سنوات دون مراعاة للتطورات في هذا المجال، ومن المفترض أن تبحث الوزارة جديا عن طرق تطوير التدريس وإعادة صياغة المناهج الدراسية. أما بالنسبة للتحول الرقمي، فإن التركيز على توفير الأجهزة التكنولوجية دون تطوير المناهج الدراسية يعتبر قصورا في سياسات التعليم. يجب استخدام التكنولوجيا كوسيلة لتحسين عملية التعليم بشكل شامل دون الاعتماد المطلق عليها. من ناحية أخرى، يتم تأكيد الثقافة والتربية الوطنية كأمور هامة في المادة رقم 48 من الدستور المصري، ولكن يظهر اهتمام ضعيف بتطوير هذه المواد وتدريسها بشكل مناسب. أخيرًا، تطوير التعليم يجب أن يشمل تحقيق التوازن بين الثقافة واحتياجات سوق العمل، بحيث يتم إعداد الطلاب بالمهارات اللازمة لسوق العمل، وفهم أهمية الثقافة والتراث.
تتشابه ملامح التدهور وعوامل الضعف بين المنظومة التعليمية المصرية والمنظومة التعليمية التونسية. يسود حالة من التدهور في كلا المنظومتين نتيجة غياب الرؤية الواضحة للإصلاح والتطوير، بالإضافة إلى الصراع القائم بين السلطة والمعلمين، الذي يعود إلى تردي الأحوال المعيشية للمعلمين.
فمستوى الثقافة والتعليم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى التقدم الاقتصادي، وهذا يتجلى في تدهور الأحوال الاقتصادية في كل من تونس ومصر.
ويتمثل السبب الرئيس وراء ذلك في الآثار السلبية لجائحة كورونا، والتي أدت إلى قرارات ارتجالية من السلطة أدت إلى تدهور وضع المنظومة التعليمية في كلا البلدين. تراجع دور المنظومة التعليمية يعود أساسًا إلى ضعف تحديد ملامح الثقافة الوطنية، مع استمرار معاناة الجمهورية التونسية من الآثار السلبية للاستعمار الفرنسي. لتحسين الوضع، يُقترح تعزيز دور البرلمان وتدعيم التعاون بين البرلمان المصري والبرلمان التونسي لصياغة رؤية واضحة للثقافة الوطنية في كلا البلدين.
كما يجب تعزيز التعاون بين مصر وتونس عبر وزارة الخارجية من أجل تقريب وجهات النظر وتدعيم الآليات المشتركة في إصلاح منظومة التربية والتعليم في كلا البلدين. أيضًا، يُقترح تشكيل لجنة دائمة تتبع رئاسة الجمهورية في كلا الدولتين، تضم خبراء في مجال تطوير التعليم لصياغة خطة فعالة لإصلاح منظومة التعليم.
إن تعزيز الثقافة الوطنية يلعب دورًا هامًا في إثراء الحضارة الإنسانية وتوحيد أفراد المجتمع. من خلال المنظومة التعليمية، يُمكن تشميل عملية التوعية والإصلاح فئات عديدة من أفراد المجتمع، خاصة الطلاب والتلاميذ، الذين يقع على عاتقهم مسؤولية بناء الأوطان. بناء على دراسة واقع المنظومة التعليمية في مصر وتونس، نجد أنها غير صالحة لترسيخ الثقافة الوطنية.
المرجع:
https://jawak.com/%D8%AF%D9%88%D8%B1-
