حين يمحو البحر
الأسماء "صدى مُنْدَثِرًا"

تلاشت المدينة كما
يتلاشى الحبر على ورقٍ نسيه المطر، لم يسقط جدار، لم يُسمع انفجار، لكنها انحسرت
شيئًا فشيئًا حتى لم يعد لها أثر. الشوارع امتدت فارغة، كأنها تجهل من كان يعبرها،
والمقاهي ظلت مفتوحة على مقاعد لم يعد يشغلها أحد. بقيت النوافذ مواربة، تهتز على
وقع ريحٍ غريبة، كأنها تستفسر عن الغائبين.

لم يكن أمام العابرين
طريق سوى البحر، لم يحملوا خرائط، لم يودعوا منازلهم كما يفعل المسافرون. كانت
الخطوات مترددة في البداية، لكنها سرعان ما التحمت مع الموج. على الميناء، تراصّت
القوارب دون هوية، لا علامات تميزها، لا أسماء محفورة على خشبها، كأنها محايدة، كأنها
تنقل أي شخص إلى أي مكان بلا اكتراث.

دفعت الأيدي المال
بارتباك، وساد صمت يشبه صمت القاعات التي سبقت المحاكمات الأخيرة. لم ينادِ أحدٌ
باسم الآخر، لم يحدد أحدٌ وجهته، وكأن القارب ليس مجرد وسيلة، بل حكم قاطع لا رجعة
فيه. امتلأت المقاعد بجثثٍ تتنفس، تجمدت النظرات، وساد السكون، وكأن من فيه قد تماهوا
مع مصيرهم القادم.

في عرض البحر، انحسر
كل شيء خلف القارب. الأرض لم تعد سوى خيالٍ غارق في الضباب، لم تعد هناك بداية،
ولم تظهر بعد نهاية. الأمواج تحرك القارب بلا مبالاة، النجوم تتأرجح في سماء لا
تهمها الأسئلة، والصمت كان سيدًا متوجًا على كل شيء. كل نفسٍ كان ثقيلًا، كل حركة
كانت خشية أن تحدث صوتًا يعكّر تلك العزلة المطلقة.

جاءت الليلة الثالثة
حاملةً معها ما لم ينتظره أحد، ومع ذلك، لم يكن مفاجئًا. مال القارب ببطء، كما
تميل شجرة فقدت جذورها، لم يكن هناك صياح، لم يكن هناك نداء، لم تكن هناك محاولة
للنجاة. بدا وكأن البحر يختار، يبتلع بصمت، يطوي الصفحات دون أن يترك حواشي أو
تعليقات.

مع أولى خيوط الصباح،
عاد البحر إلى هدوئه.

السطح بقي نقيًا، لا
بقايا تدل على ما كان، لا شظايا تعلن عن الغارقين. لم يظهر على الشواطئ شيءٌ ليحكي
قصتهم، لم يلاحظ أحدٌ غيابهم، لم تُسجَّل خسارة، وكأن أحدًا لم يكن هنا أصلًا.

في مدينة بعيدة، جلس
رجلٌ يحدق في الجدار. يداه فارغتان، كأنه كان يحمل شيئًا وفقده دون أن يتذكر متى
أو كيف. لم يسأل إن كان قد نجا، لأن النجاة بلا معنى حين لا يكون هناك شيءٌ يستحق
العودة إليه. هل كان العبور مجرد وهم؟ أم أن الغرق كان مجرد شكلٍ آخر للوصول؟

في بيتٍ بعيد، اهتز
الهاتف لوهلة.

صوت رحل قبل أن ينتظر
ردًا.

كما البحر، الذي لا
يلتفت لما مضى.

تلاشت المدينة كما
يتلاشى الحبر على ورقٍ نسيه المطر، لم يسقط جدار، لم يُسمع انفجار، لكنها انحسرت
شيئًا فشيئًا حتى لم يعد لها أثر. الشوارع امتدت فارغة،

حين يمحو البحر الأسماء "صدى مُنْدَثِرًا"

وسام رحال

اقرأ ايضاّ