جامعة بلا أسوار: رؤية الدكتور سليمان حزين
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولفي زمنٍ مضى، كانت جامعة أسيوط تحمل طابعًا فريدًا، يختلف عما اعتادت عليه الجامعات الأخرى. لم تكن هناك أسوار عالية تحيط بها، ولا بوابات ضخمة تتحكم في الدخول والخروج. كانت شوارع الجامعة امتدادًا طبيعيًا لشوارع المدينة، وكأنها جزء لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والثقافي. في تلك الأيام، كانت العربات التي تجرها الحمير تمر عبر أراضي الجامعة بكل حرية، حاملةً معها رائحة التراب وهمس الحياة اليومية لعامة الناس. لكن هذه الصورة البسيطة لم تكن لتُرْضِي الجميع.
في أحد الأيام، اجتمع عدد من الأساتذة الجامعيين، وقرروا أن يذهبوا إلى رئيس الجامعة، الأستاذ الدكتور سليمان حزين، الذي كان أول رئيس لجامعة أسيوط، ورجلًا ذا بصيرةٍ ورؤيةٍ ثاقبة. كان الدكتور حزين معروفًا ببلاغته وحكمته، وقد تبنى منذ بداية توليه منصبه فلسفةً خاصةً في إدارة الجامعة، جعلت منها مكانًا مفتوحًا على المجتمع، دون حواجز أو أسوار. لكن الأساتذة، الذين رأوا في مرور الحمير عبر الجامعة أمرًا غير لائقٍ بمكانة المؤسسة الأكاديمية، قرروا أن يعبروا عن تذمرهم.
وقف الأساتذة أمام الدكتور حزين، وشرحوا له وجهة نظرهم: "كيف تسمح، يا دكتور، بأن تدخل الحمير إلى الجامعة؟ أليس هذا أمرًا يقلل من هيبتنا الأكاديمية؟ ألا ترى أن وجود هذه العربات وسط الجامعة يسيء إلى سمعة المؤسسة العلمية التي ننتمي إليها؟". كانت كلماتهم تعكس قلقًا عميقًا من أن يفقد المجتمع الأكاديمي هيبته وسط هذا الانفتاح غير المسبوق.
لكن الدكتور حزين، الذي كان يحمل رؤيةً مختلفةً تمامًا، لم يبدُ عليه أي انزعاج. نظر إليهم بابتسامةٍ هادئة، ثم قال كلمته التي أصبحت لاحقًا جزءًا من تاريخ الجامعة: "ليس مهماً أن تدخل الحمير الجامعة، المهم هو ألا تخرج منها بشهادة جامعية".
كانت هذه العبارة البليغة تلخيصًا لفلسفة الدكتور حزين، التي رأت في الجامعة مكانًا للانفتاح على المجتمع، وليس حصنًا منعزلًا عن هموم الناس. كان يؤمن بأن الجامعة يجب أن تكون جزءًا من الحياة اليومية، وأن تكون قريبةً من الناس، لا أن تنفصل عنهم بأسوارٍ عالية. في نظره، لم تكن الحمير التي تدخل الجامعة هي المشكلة، بل المشكلة الحقيقية تكمن في أن تتحول الجامعة إلى مكانٍ يخرج منه أشخاصٌ يحملون شهاداتٍ دون أن يكونوا مؤهلين بالفعل لخدمة المجتمع.
كانت رؤية الدكتور حزين تنطلق من إيمانٍ عميقٍ بدور الجامعة كمنارةٍ للعلم والمعرفة، يجب أن تكون في متناول الجميع. لم يكن يرى في الحمير التي تجر العربات أي إهانةٍ لكرامة الجامعة، بل كان يرى فيها رمزًا للتواضع والبساطة التي يجب أن تتحلى بها المؤسسات العلمية. في نظره، الجامعة ليست مكانًا للعزلة والتفاخر، بل هي مكانٌ للتفاعل مع المجتمع، وخدمة أفراده، ونشر العلم بينهم.
لكن كلمته تلك لم تكن مجرد ردٍ على تذمر الأساتذة، بل كانت أيضًا تذكيرًا لهم بأن الهدف الحقيقي للجامعة هو تخريج طلابٍ قادرين على الإسهام في بناء المجتمع، وليس مجرد منح شهاداتٍ دون معنى. كان الدكتور حزين يريد أن يقول لهم: "لا تهتموا بالشكليات، بل اهتموا بالجوهر. لا تهتموا بما يدخل الجامعة، بل اهتموا بما يخرج منها".
وبالفعل، استمرت جامعة أسيوط تحت قيادة الدكتور حزين كجامعةٍ بلا أسوار، تتفاعل مع المجتمع، وتفتح أبوابها للجميع. كانت هذه الرؤية الثاقبة هي التي جعلت من الجامعة مكانًا مميزًا، ليس فقط في أسيوط، بل في مصر كلها. لقد فهم الدكتور حزين أن العلم الحقيقي لا يعيش في أبراجٍ عاجية، بل يجب أن يكون جزءًا من حياة الناس، وأن يخدمهم في كل تفاصيل حياتهم.
اليوم، وبعد سنواتٍ طويلةٍ من تلك الحادثة، لا تزال كلمات الدكتور سليمان حزين تتردد في أروقة جامعة أسيوط، كتذكيرٍ بأهمية التواضع والبساطة في الحياة الأكاديمية. لقد علمنا أن الجامعة ليست مجرد مبانٍ وأسوار، بل هي فكرةٌ تنمو في عقول وقلوب من يدرسون فيها. وأن العلم الحقيقي لا يعرف الحواجز، بل يتخطى كل الحدود ليصل إلى كل من يحتاجه.
فهل نتعلم من هذه القصة أن ننظر إلى الجوهر، لا إلى المظهر؟ وأن ندرك أن قيمة الجامعة تكمن في ما تقدمه للمجتمع، وليس في ما تفصله عنه من أسوار؟ لعل كلمات الدكتور حزين تظل نبراسًا يضيء الطريق لكل من يؤمن بأن العلم يجب أن يكون في خدمة الإنسان، أينما كان، وحيثما وجد.
