المسبحة – ذكرياتى مع أمى من خلال شهادة المسبحة

آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
المسبحة المسبحة

تعودت في الفترة الأخيرة من حياتي أن أستيقظ في أوقات السحر وحتى السابعة صباحا، حتى أخرج ما في داخلي من أسرار وأبعث بها إلي السماء، أخاطب بها الغفار، وأطلب منه شفأء قلبي.

وإنه لإحساس رائع أن تولد من جديد بتوبة يبعثك الله بها إلى الجنة... إحساس جميل أن تتوب من ذنب تعرفه، وعقلك يعرفه، وقلبك يعرفه، ثم تفاجأ يوم الحساب بأن الله قد أرخي عليك ستره، وذكرك به، وبدله حسنات.

إحساس غريب أن تشتاق إلى الله فتشتاق إلى الصلاة لأنك ستقف بين يديه، وتشتاق للقرآن لانه كلامه، وتشتاق للدعاء لانه مناجاته، وتشتاق إلى الليل لانه فيه يناديك، وتشتاق للنهار لأن فيها عطاؤه، وتشتاق للرسول لأنه حبيبه، وتشتاق إلى الجنة لأن فيها رؤية وجهه الكريم، وتشتاق الي الموت لأنه لقاؤه.

وفى إحدى الليالي أخذتني غفوة أحسست فيها بإحساس غريب من نوع خاص، تذكرت شيئا غريبا لم يخطر ببالي من قبل على الإطلاق... لقد تذكرت مسبحة أمي... عليها كل أسراري وذكرياتي معها، أحسست بانني مقصر وإنني أخطأت خطأ لا يغتفر حين تركتها عندما رحلت أمي، فقد تعودت أن لا أقتني أشياء من ميراث الموتى الشخصي، ولكنني تذكرت ان هذه صديقتي، تشتت قلبي في لهفة يا ترى أين ذهبت، ومع من ستكون، تألمت بشدة لقد غدرت بها.

أحسست بلحظة فقدان لم أشعر بها طوال حياتي، هذه المسبحة لها معي ذكريات طوال، فيها كل الأوقات التي جلستها مع أمي طوال ثلاثون عاما، فعندما كنت أدخل من باب غرفة أمي تقع عيني على تلك المسبحة وأتناولها مباشرة قبل جلوسي، ولا أتركها من يدى إلا عندما أهم بالمغادرة، إنها تشهد على كل لحظاتى معها.

وتساءلت: ولكني لم أتأثر بتلك الصورة عندما أتذكر أمي فما تلك الحكاية، وما تلك الهشاشة التي تصيبنا فتضعفنا فلا يجبرها ويلملم شتاتها إلا قربنا منهم، تذكرت شيئا منها عالقا هناك مني، تذكرت ان أجمل ما في فراق الموتى أن الأجساد تتباعد، ولكن الأرواح تتقارب فيزداد تعلقنا بهم بصورة كبيرة بعد رحيلهم، وكل مرة كنت ألقاها أحس أنني ولدت من جديد، وأنسي كل مرارة ذقتها من قبل في حياتي، عندما كانت تتلاشى آلامي وأصير طفلا وأنا أقبل يديها، فما تلك اللوعة التي إعترتني: إلهي ها هو قلبي بين يديك، إمسح عليه برحمتك، وضع في ضعفي قوة منك، وإرحمه عندما يناجيك شوقا، وكبدا يحترق إليك حنينا، وبرد بالرضا منك فؤادي.

تلك اللحظات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الشعور بالسلام والنور الإلهي والشفافية، قمة الخشوع هي تلك اللحظة التي تجتاح الصدر فتجعلك تبكي بكاءا من نوع آخر، التي تحس فيها وأنت ساجد أن قلبك يتملص من بين ضلوعك، ليتخلص من قيوده ويعود الي ربه، فتحس بشئ غريب من الجمال تتلذذ به، ويقع في نفسك كالغيث، جمال لا يرى بل تحسه بقلبك، تحس برزق من نوع خاص، فأجمل الأرزاق ليس رزق المال،. بل سكينة الروح، ونور العقل، وصحة الجسد، وصفاء القلب، وسلامة الفكر، ودعوة أم، وعطف أب، وقرب أخ، وضحكة إبن، وإهتمام صديق، ودعوة محب في الله.

لقد ذكرتني مسبحة أمي بما كانت توحي به لي:

إذا أغلق الشتاء أبواب بيتك وحاصرتك تلال الجليد من كل مكان، فإنتظر قدوم الربيع وإفتح نوافذك لنسمات الهواء النقي، وأنظر بعيداً فسوف ترى أسراب الطيور وقد عادت تغني، والشمس تلقي خيوطها الذهبيه فوق أغصان الشجر لتصنع لك عمراً جديداً، وحلماً جديداً، وقلباً جديداً، أخرج من سجن العالم الإفتراضي، وعِش حياتك علي حقيقتها، فالحياة أقصر من أن تمضيها في الشكوى والندم.

وإذا أرهقتك الجراح فأنظر للأمل ببصيص من التفاؤل، وأعلم أن للحياة وجه آخر ودَع منغصات الحياة، وإلتفت لبزوغ الشمس وسوف تدرك أن الجرح يجب أن يندثر تحت وطأة الفرح... فإنك الأقوى، لأن من بيده ملكوت كل شي هو مَن يقف بجانبك الآن، وراعي من يَعوله الذي ظلمك، فربما هناك من يستحقون حنانك ولطفك، وإعلم دائما بأن الله مع الخير في كل الأحوال وأنه لن يضيعك.

إن أحسستِ بشعور الظلم فإعلم أن الليل لن يطول، وأن الشمس سوف تشرق في النهار، وأنك تملك دعوة قد خبأها الله لك، وإرأف بحال من ظلمك... وإذا عزمت الرحيل فإحذر من تفتت القلوب التي أحبتك، ولا تقسو على أفئدة تعلّقت بك، وخذ منهم ما يحييهم في قلبك، وأترك لهم بعض قلبك لكي ينبض في دواخلهم مدى الزمان، وإعلم أن الحنين سوف يُجبرك على العودة ذات يوم فلا تستغني عن أحد.

وإعلم أنه في كل مرحلة من مراحل حياتنا تتغير علاقاتنا ، أفكارنا، قناعاتنا، ما نحب وما لا نحب، فعبّر عن نفسك بصدق، ولا تخشى إنهيار الصور الذهنية للآخرين عنك، فقد يوجد مِئات الصور الذهنية لدي من حولك عنك، ولكن أي صورة منهم أنت، فلا تجهد نفسك في الحفاظ على وهم كبير.

وإذا قررت يوماً الرحيل فلا تترك خلفك قلباً مجروحا ولا عينا تبكي، وحاول أن تكون ذكري جميله في طيات الزمان، وَدَع من كان يوماً سبباً في وجودك ولا تنظر خلفك كي لا تتراجع في الإبتعاد، وإذا أنهَكَكَ الألم فخذ من حنايا قلبك المُتعب والمثقل نبضة حب، ونظرة تأمل لمستقبل مشرق تنثرها على أنحاء جسدك، وإعلم أن لكل شيء حد ونهاية، وأن الحياة وإن قست فإنها لك ولغيرك فخذ مِنها ما لَكَ،ودَع ما ليس لك لغيرك، وإذا أردت أن تجد الحب فإبحث عنه داخلك أولاً، ولا تكن فاقدهُ لأنك لن تستطيع إعطاءه... وإعلم أن فقد مساحه من الحب تنبئ عن عدم وجود أي مكان لإستقبال الحب من الغير، وإبحث عن النواة التي يمكن أن تغرسها في تربة قلبك، وإعلم أي تربة يحويها قلبك لتجلب له نواة يناسبها النمو في أحشائه، وإعلم أنه رغم حاجه الناس للشمس فهي تغييب كل يوم دون أن يبكي لفراقها أحد.

إجعل خطواتك في الحياة كمن يمشي علي الرمل لا يسمع صوته ولكن أثره واضح، ولا تيأس إذا تعثرت قدماك فسوف تخرچ منها وأنت أكثر تماسكاً وقوة والله مع الصابرين، ولا تحزن إذا جاءك سهم قاتل من أقرپ الناس إلى قلبك، فسوف تجد من ينزع السهم ويعيد لك الحياة والابتسامه، وأن أغنياء الروح هم أسياد الحياة لإنهم مُفعمون بالحرية والبساطة والرحمة، ولو تحطم لك أمل فاعلم بأن الله يحبك وإبتسم، ولا تقل الحظ عمره ما كمل، لكن قل أني حاولت ولكن الله ما قسم، وإعلم أنه عندما يوزع الله الأقدار ولا يمنحك شيئا تريده فاعلم تماماً بأن الله سيمنحك شيئا أجمل مما تريد... وإذا ضاع منك الأمس فبين يديك اليوم، وإذا كان اليوم سوف يجمع أوراقه ويرحل فلديك الغد، ولا تحزن على الأمس فهو لن يعود، ولا تأسف على اليوم فهو راحل... وإحلم بشمس مضيئه في غد جميل.

ليلى الشبراوى

ليلى الشبراوى

كاتب

Laila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ