أسبوعٌ واحد
تقف السيّارة أمام بناءٍ مؤلّفٍ من أربعة طوابق ، يترجّل عصام و سام منها و يصعدان إلى الطّابق الثاني ، و أثناء صعودهما الدّرج طلب سام من عصام ألّا يتكلّم عن سبب رغبته بالحصول على الوشم .
يطرق سام الباب و تفتح له فتاة شابّة ، تستقبله بابتسامةٍ ودودة ، ثمّ تدعوهما للدخول ، في داخل الشقّة كانت اللّوحاتُ الفنيّةُ تزيّن الجدران ، و في منتصف الغرفة لوحةٌ غير مكتملة ، لاحظ في هذه الأثناء عصام وجود وشم عشيرة الضّباب على معصم الفتاة ، هنا بدأ سام الحديث معرّفاً عصام بليا ، و ليا هي فنّانةٌ تشكيليّة ، و هي من عشيرة الضباب ، ارتادت مدرسة المتفوّقين في مناطق عشيرة النّار ، و في حين عانت الأمرّين خلال الحرب ، تجد نفسها الآن ممتنّةً لما وصلت إليه ، و في الواقع فإن المدينة تعجّ بأبناء العشيرتين ، وحدهم المتعصّبون هم الّذين رفضوا مغادرة جبال الشّرق ، و رغم انتهاء الحرب منذ تسعة أشهر ، بعد إعلان عشيرة الضّباب عن عودة الوريث الشّرعي من مناطق عشيرة النّار طلباً للهدنة ، و إعادة توريد المياه لجميع أجزاء المدينة ، لكنّ عدداً لا بأس به من أفراد عشيرة الضّباب رفضوا هذه الهدنة ، معتبرين عشيرة النّار عدوّاً لهم .
عرّف عصام عن نفسه أيضاً ، و طلب سام من الفتاة مساعدته ، و ذلك برسم وشم عشيرة الضّباب على يد عصام ، ابتسمت ليا بلطف و قالت :
_بكلّ تأكيد ، لن أنسى أبداً معروفك معي عندما ألقيت القبض على سارق الأرجوحة ، سأستخدم بعضَ الحنّة ، و لكن لن يستمرّ الوشم لأكثر من أسبوع ، و عليك أن تحاول أن تبعد عنها الماء .
_حسناً ، أنا ممتنٌّ لكِ بالفعل ، لكن أعذريني سأغادر الآن و أعود خلال نصف ساعة .
_لا مشكلة ، سأكون قد انتهيت في هذه المدّة .
_شكراً مرّةً أخرى ، إلى اللّقاء .

الأرجوحة
قام عصام بمدّ ذراعه ، و قد احمرّ وجهه من شدّة الخجل ، فقد اعتاد البقاء مع والده وحيدان في الغابة ، و لم يألف التعامل مع الفتيات ، و عندما بدأت ليا ترسم وشم العقرب على معصمه ، لاحظت خجله الشّديد ، فحاولت أن تتجاذب معه أطراف الحديث لتنقذه من التوتّر ، فسألته و هي تركّز نظرها على الوشم قائلةً :
_باطن يدك يبدو خشناً ، لا بدّ أنّك تقوم بعملٍ مجهد .
_بالفعل ، لقد كنت أعمل في حقل ذرةٍ على أطراف المدينة .
_و لماذا تريد الحصول على وشم العقرب يا عصام؟
_لأنّه أعجبني ببساطة ، هل كنتي تملكين أرجوحة؟
_ماذا ؟ كلّا لم أكن أملك واحدة ، من أين أتيت بهذه الفكرة ؟
_لقد قلتِ أنّ سام ساعدك في العثور على سارق الأرجوحة ، أليست لكِ؟
ضحكت ليا في تلك اللّحظة ، و شعر عصام بوجهه يحترق من شدّة الخجل ، لكنّها رفعت وجهها و نظرت في عينيه و قالت :
_الأرجوحة هو اسم لوحةٍ رسمتها منذ سنوات ، ما رأيك أن أريكَ إيّاها ؟
لم تنتظر ليا جواب عصام ، بل ذهبت إلى لوحةٍ مغطّاة في زاوية الغرفة ، و قامت برفع الغطاء عنها ، لتظهر حديقة جميلة ، و أرجوحةٌ عليها فتاةٌ صغيرة ، يدفعها فتىً يبدو أكبر سنّاً منها ، و بجانبها شجرة حورٍ كبيرة .
انصدم عصام عندما رأى اللوحة ، إنّها نفس الحديقة الّتي كان يتذكّر وجوده فيها مع أخته دينا ، جميع التفاصيل حاضرة ، شجرة الحور و الأرجوحة و السّياج الحديدي .
استطردت ليا حديثها قائلةً :
_كنت في سنتي الأولى عندما رسمتُ هذه اللّوحة ، كانت هذه الحديقة جانب ثانويّة المتفوّقين ، و قد كنت أخرج يوميّاً و أجلس هناك ، و أرسم المارّة مقابل عائدٍ ماديّ ، و في أحد الأيام لم يكن لديّ زبائن ، و هنا اكتشفت أنّني لم أستمتع قبلُ بجمال تلك الحديقة ، بل ظللتُ أركّز في وجوه النّاس حتى فاتني جمال المحيط ، و يومها قرّرت أن أرسم تلك الأرجوحة.
_إنّها جميلةٌ جدّاً ، لكنّني أشعر أنّي أعرف هذا المكان بشكلٍ جيّد ، و أولئك الطّفلان ، هل كانا يتردّدان كثيراً إلى هناك ؟
_في معظم الأيّام كنتُ أراهما مع والدتهم ، لكن لم يتسنّى لي معرفتهما قط ، فدائماً ما كنت مشغولةً في الرسم .
اقترب عصام من اللّوحة ، و راح يدقّق في تفاصيلها ، كان الجوّ خريفيّاً ، و كانت هناك حقيبة بنيّةٌ على المقعد القريب ، و رجلٌ يقرأ جريدةً على المقعد المقابل ، حفظ تلك التفاصيل في رأسه ، ثمّ عادا إلى مكانيهما ليكملا الوشم .

التحضير
عاد سام إلى منزل ليا ، شكرها مرّةً أخرى على مساعدتها ثم غادر الشقّة بصحبة عصام ، صعدا إلى السيّارة ، و هناك أشار سام إلى المقعد الخلفي ، و عندما التفت عصام وجد حقيبة كبيرة الحجم ، ثم نظر سام إليه قائلاً :
_لقد جهّزت لك بعض الأمتعة في تلك الحقيبة ، و أيضاً تذكرة قطارٍ إلى وادي السّلام ، عليك أن تستقلّ القطار إلى الوادي ، و من هناك يمكنك انتظار إحدى الحافلات الّتي تصعد إلى الجبال .
_شكراً جزيلاً لك ، لقد ساعدتني كثيراً بالفعل .
_لا شكر على واجب ، لكن عليك أن تكون حذراً أيضاً ، لقد أخبروني من مركز الشّرطة ، أنّه بعد التّحقيق في الرّصاص الذي وجدوه حول منزل الغابة ، توصّلوا إلى أنّ الأسلحة المستخدمة هناك هي أسلحةٌ كوريّة ، و هذا يعني أن عشيرة الضّباب كانت وراء هذه العمليّة ، لا ، بل متعصّبي العشيرة من عائلة سيف .
_هذا غريب ، كيف وجدوا المنزل في وسط الغابة ؟ و ما هي تلك المصادفة التي جعلتهم يأتون معكم في نفس اليوم ؟
_هذه ليست مجرّد مصادفة ، بل إنّها أخبارٌ مسرّبةٌ من مركز الشّرطة .
_إذاً ، يوجد دخيلٌ هناك؟
_أجل ، هذا ما أعتقده ، لكنّي لم أطرح الفكرة أمام الرّائد ، لأنّني الآن أشكّ في الجميع هناك ، و عليه لن أتكلّم حتّى أكتشف دليلاً قويّاً يثبت هويّة الفاعل ، و أيضاً عليّ اكتشاف الدّافع وراء الهجوم .
_حسناً ، أنا أعتمد عليكَ حقّاً ، مصيري و مصير والدي و عائلتي بأكملها معلّقٌ بك .
_لا تخف فأنا إلى جانبك ، لكن كنْ حذراً دائماً ، فهم يعرفون أنّك لا تزال حيّاً ، و لذلك ستجد في الحقيبة بعض الأزياء التنكّريّة و الشعر المستعار ممّا تستخدمه الشّرطة للتخفّي ، عليك من الآن إخفاء هويّتك .
لمعت عينا عصام في تلك اللّحظة، و لم يجد كلماتٍ يعبّر بها عن شكره لسام .

الحنين
نزل عصام من السيّارة أمام إحدى محلّات الحلاقة ، ودّع سام بحرارة ، ثمّ دخل إلى المحل و طلب من الحلّاق أن يجعله أصلع تماماً ، و بعدها قام بارتداء نظّارةٍ شمسيّة و نظر إلى نفسه في المرآة ، ثمّ انفجر من الضّحك و الحلّاق ينظر إليه باستغراب .
غادر بعد ذلك و هو يتفحّص بطاقة القطار ، لديه ساعتان كاملتان قبل موعد الإنطلاق ، لا ضَيرَ إذاً من زيارةٍ سريعة إلى الحديقة ، تلك الّتي تقع عند مدرسة المتفوّقين .
و بالفعل اتّجه إلى المدرسة ، و راح يبحث في الأرجاء عن الحديقة ، حتّى وجد نفسه يقف أمام بابها ، شعر عصام بشعورٍ غريبٍ يخالجه ، دخل إلى الحديقة ، جلس على المقعد الّذي لطالما جلست ليا عليه ، و راح يتأمّل شجرة الحور ، و الأرجوحة ، و الأطفال الّذين كانوا يتبادلون الدّور عليها ، تذكّر دينا بوضوح ، عندما كان يدفعها على الأرجوحة فتطير جدائلها ، و كانت تطلب منه دائماً أن يدفعها بقوّةٍ أكبر ، لكنّه كان يخاف عليها .
بدأ عصام يحدّث نفسه :
هل يُعقل أنّ والدي يكذب ؟ هل يعقلُ أنّ دينا موجودةٌ حقّاً ؟ أمْ من المنطقيّ أن يكون هذا من اختراعي ؟ ماذا لو كانت دينا صديقةً لي في المدرسة ؟ ماذا لو كانت دينا موجودةً لكن لم تكن أختي؟
لا يهمّني فعلاً ، ما يهمّني الآن أنّ دينا ليست من نسج خيالي، لكنْ يا ترى ما هو هذا الشّعور ؟
قاطع أفكاره صوتُ ضحك الأطفال ، عرف حينها الإجابة ، إنّه الحنين.
لكنّ السؤال الّذي بقي معلّقاً في الهواء ، أين هي دينا ؟
يتبع....