ليلةٌ واحدة
كان راكان يقف إلى جانب سام أمام السيّارة ، و يتلفّت حوله و كأنّه يراقب الظلام ، اتّكأ على مقدّمتها و قال مخاطباً سام :
_ أيّاً كان من يتربّص بنا هناك فهو قريبٌ بدون أدنى شكّ ، لكنّ الظّلام الدّامس و نباتات الذرة المرتفعة ستجعل الإمساك به الآن من المستحيلات .
_ لقد قام بإفراغ الهواء من عجلات السيارة و تخريب اللّاسلكي ، و الأدهى من ذلك إنْ لم تلاحظ يا راكان فالخريطة و البوصلة مفقودتان أيضاً ، أي أنّه لا يريدنا أن نغادر من هنا حتّى سيراً على الأقدام .
_ لا تقلق ، من السّهل تتبّع آثار السيّارة للعودة ، أرادنا أن نظلّ اللّيلة هنا و له هذا ، لكن في الصباح الباكر سنغادر المكان ، لن يكون قادراً على المناورة في وضح النّهار .
_ ماذا لو كان يحملُ سلاحاً ؟
_ هذا احتمالٌ واردٌ فعلاً ، إذا ثبت عليه فحينها سنبقى رهائن هنا حتى نوقع به ، أو يوقع بنا .
_إذاً سنقضي هنا ليلةً عصيبة .
أومأ راكان برأسه موافقاً سام في رأيه هذا ، و قام بإخراج علبة السجائر من السيارة و إشعال واحدة ، ثم وضع العلبة في جيبه و قال :
_ لاشيء يساعدني على التفكير بقدر التدخين ، دائماً ما يلهمني الحلول .
ثم دخل الرّجلان إلى المنزل على أن يستمرّا في مراقبة الأبواب و النوافذ و البقاء متيقّظين حتّى حلول الصّباح .
في هذه الأثناء ، كان عصام يراقب المنزل عن كثب ، و يمسك البندقيّة متأهّباً أيضاً ، و بينما كان غارقاً في مراقبة تحرّكاتهم داخل المنزل ، تفاجأ بحركة قويّة خلفه بين الحشائش ، التفت عصام ليجد خلفه مفاجأةً مرعبة .

ضيف غير مدعو
هناك في المنزل ، كان الرّجلان قد قرّرا أن يتبادلا المناوبات على الحراسة ، على أن ينام أحدهما و يراقب الآخر المحيط ، فاللّيل طويل ، و ينتظرهما مسيرٌ مرهقٌ في الغد ، و ما إنْ استلقى راكان على السرير حتّى قفز على قدميه ، فقد سمع صوت عيارٍ ناريٍّ من حقل الذرة ، تبعه صوتُ عيارٍ آخر كسر زجاج السيّارة ، حمل مسدّسه و وقف هو و سام كلٌّ على نافذة ، و قاما باطلاق عدة رصاصات باتّجاه الحقل ، قال سام مخاطباً راكان :
_ هل تظنّ أنّه تمّ إطلاق النار لإخافتنا ؟ أم أنّه يريد أنْ يعرف إنْ كنّا نحمل أسلحةً معنا ؟
_ حسناً يا سام ، في البداية ، نحن لا نعرف إن كان شخصاً واحداً فقط ، و ثانياً ، لنخرج و نتفقّد مكان إطلاق النار لعلّنا نجد شيئاً ما.
خرج الرجلان و أصابعهما جاهزة على الزناد ، و نظرو إلى زجاج السيارة المتناثر ، قال راكان و هو يحاول أن يحلّل ما يرى :
إن الرّصاصة الثانية هي التي كسرت زجاج السيارة ، لكن لا يوجد أيّ أثرٍ للرصاصة الأولى، هل هو فاشلٌ في التصويب إلى هذا الحد ؟
_ كلّا ، بل أغلب الظّن أنّها رسالةٌ منه ، لستما في مأمَن .
عندها أخرج راكان علبة السجائر من جيبه ، و عندما قام بإشعال سيجارته سرح سام قليلاً ، ثم فتح عينيه مصدوماً فجأةً و قال لراكان :
_ وجدتها ، يا لي من عبقري ، لقد ألهمتني لفافة التبغ تلك حقّاً .

الخطة العبقرية
في الوقت الّذي كان الرّجلان يحلّلان الموقف ، و يحاولان معرفة نيّة الرّجل الخفي من إطلاق النار ، كان عصام يقوم بتغيير موقعه في الحقل و يجرّ معه جثّة الضّبع الذي باغته و هو يراقب المنزل ، فاضطّر لإطلاق النار عليه ، و ليشتّت الرّجلين أيضاً قام بإطلاق النار على زجاج السيارة ، لقد كشف موقعه القديم ، و لم يكن يرغب بأن يجد الرّجلان جثّة الضّبع فيدركا الموقف ، قام بالتخلّص من جثّته بعيداً في الغابة ، و عاد بعدها إلى حقل الذرة ، و بينما كان يمشي خافضاً رأسه بين النباتات تفاجأ بضوءٍ و دخانٍ كثيف قادمان من جهة المنزل ، رفع رأسه ليجد النّار بدأت تلتهم حقل الذّرة من مقدمته ، يبدو أنّ الرّجلان قد وجدا خطّةً محكمة من أجل إبعاده عن المنزل و ترك المنطقة المحيطة مكشوفة ، كما أنّهما سيستفيدان من الضوء الصادر عن تلك النّيران لرصدِ أيّة حركةٍ قريبة .
شعر عصام بالخوف ، سيحرقان حقل الذرة ، و سيفقد ورقته الرابحة ، لا بدّ أن يتصرّف بسرعة .
لقد كان سام صاحب فكرة إضرام النار في الحقلِ ، فعندما كان يراقب اشتعال عود الثقاب الذي كان يستخدمه راكان ، خطرت في باله تلك الفكرة الجهنّمية ، مستفيداً من الطوق الترابي المحيط بالحقل الذي سيحصر النيران دون الامتداد إلى باقي الغابة .

اللطف الإلهي
بينما كان الرّجلان ينتظران امتداد النيران في الحقل ، و خروج المتربّص بهما من هناك كالجرذ الذي يهرب من حريق ، كان عصام قد دخل في موجةٍ من الذّعر ، لم يدرِ ماذا يجب أن يفعل ، فهو الآن يفقد مخبئه ، و أيضاً يشاهد تعبه و تعب والده تلتهمه ألسنة اللّهب .
استلقى عصام على ظهره ، و في لحظة الرّعب تلك عادت له ذكرى قديمة ، عن حريقٍ في منزل ، و ربّما قصفٍ جويّ ، كلّ ما يعرفه أنّ النّيران كانت تلتهم كلّ شيء حوله ، و جاء رجلٌ ما لإنقاذه ، لقد كان هذا الرّجل استجابةً لدعاءه حينها ، لطفاً إلهيّاً به ، و بات يعيش في الذّكرى تماماً و كأنّه يحلم .
في اللحظة التي ينتشله فيها الرّجل من بين الأنقاض يستيقظ عصام ، يستيقظ على شيء يصطدم بوجهه ، يلمس عصام وجهه و يقول في نفسه :
_ ما هذا ، من أين أتى الماء !
ليبدأ المزيد بالتساقط و ينهمر المطر الغزير ، و هكذا بدأت النار تخمد ، و ركض عصام إلى الغابة ليختبئ من الأمطار تحت صخرة يعرفها ، و هو يحمد الله على إنقاذه و إنقاذ الحقل من الحريق .
و على الكفّة الأخرى ، كان سام و راكان يشاهدان الأمطار من داخل المنزل ، قال راكان مبتسماً :
_ خطّتك مذهلةٌ يا سام ، حتى لو لم نتمكّن من افتعال الحريق كما أردنا ، لكنّه سيفكّر به كتهديد حقيقي .
_ طبعاً ، و الآن أعتقد أنّه دوري أنا في النّوم و يجب أن تراقب أنت .
_ لكن هذا ليس عدلاً ، لم أغمض عينيّ حتّى .
_ كفّ عن الشكوى الآن ، أيقظني بعد ساعة و بعدها يمكنك النوم أنت أيضاً ، تصبح على خير.
_ و أنتَ بخير ، نمْ جيّداً فلدينا عملٌ متعبٌ في الغد .
يتبع......