القتيل - قصة واقعية حدثت فى مدينة المنصورة

آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
12
لا توجد تعليقات

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق

تسجيل الدخول

القتيلالقتيل

في ليلة هادئة من ليالي الربيع يسدل الليل سكونه، لا ضجيج إلا صوت العصافير، كان ينظر إلى سقف الغرفة، الي الحوائط، الي الشباك، يزداد عمقا في التفكير، يتناول كتابا، ثم يرخي جسده على السرير، يتمدد، يفتح الصفحات، يقطع الهدوء صوت الهاتف القديم، يا تري من يطلبني في هذا الوقت من الليل، هذه أول ليلة يحس بالفراغ بعد إحالته إلي المعاش من مصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الاشغال ىالعامة والرى والموارد المائية... كان يشغل وظيفة المدير العام، كان الكل في الكل في الإدارة، يأمر وينهي بكلمة منه يتم تحديد المصير لكل من يعمل تحت إدارته، والآن وبعد ساعات قليلة أصبح لا شئ، لا يستطيع حتى إصدار أي أمر لمن يعيشون معه في بيته، يرد على الهاتف مستغربا في وقت متأخر من الليل يا ترى من يطلبني الآن.

زيارة بعد منصف الليل

مين معايا: انا الدكتور كمال، إنه كمال أخو زوجته وخال الاولاد، ماذا يريد في هذه الساعة من الليل عساه خيرا، لم نره من سنوات ولم نسمع صوته كثيرا عموما لعله خير.

أهلا يادكتور: خيرا أؤمرني ماذا تريد، أبدا ياهندسة هل يمكنني زيارتك الآن، وأعتذر منك لتأخر الوقت لأني مسافر غدا، تشرف يادكتور في أي وقت البيت بيتك.

لم يمر وقت طويل، يرن جرس الباب، يفتح مصطفي، أهلا يا خالو... الزوجة: تفضل يإ كمال، المهندس موجود بالداخل.

يخرج المهندس ماهر: أهلا يا دكتور إتفضل، شاي يا مدام للدكتور ولا تشرب قهوة، لا يا هندسة مش ها اطول معاك الوقت متأخر أنا جايلك في موضوع محدد مش محتاج وقت... خيرا يا دكتور إتفضل إجلس... الدكتور: أنا عرفت من أم علياء إنك خرجت على المعاش اليوم، ومش ناوي تشتغل، خير يادكتور هو فين الشغل ده، إيدي على كتفك ياريت، حاسس إني لن استطيع الجلوس في المنزل بعد المعاش، هو حضرتك جايب لي شغل ولا إيه ماشاء الله... شغل إيه يا باشمهندس، هي دي آخرة المبادئ اللي إنت إتمسكت بها، مش كان زمانك ماسك مدير الوقتي في شركة من الشركات اللي إتعاملوا مع الهيئة لو كنت عملت علاقات مع المقاولين، او إتساهلت معاهم شوية، بدل أسلوب الروتين والتعقيد إللي إنت كرهت بيهم الناس فيك طول مدة شغلك في الري، أهو انت اترميت في البيت الوقتي شوف ها تعمل إيه، طيب ذنب عيالك ومراتك إيه، ربنا يكون في عونهم، دا غير إنك هتمارس دور المدير عليهم هنا كمان.

عايز تقول إيه يا دكتور وإيه سبب الزيارة دي: إحنا مش بنشوفك من سنين قول لي إيه اللي وراك بالضبط، أوعي تكون جاي لي في الوقت دا علشان تلومني إني خرجت على المعاش، عموما كل الناس بتطلع معاش، وإنت كمان باقي لك سنين قليلة وتطلع معاش... أبدا يا هندسة: أنا جيت بس علشان أبلغك كلمتين على لسان أم علياء والعيال: هما عايزينك تسيب البيت وتخرج تشوف لك مكان تاني تعيش فيه.

طرد المهندس ماهر من منزله

أحس المهندس ماهر بأطرافه تتمزق، بخنجر يتخلل ضلوعه، يفصلها عن لحم جسده النحيل، تتفجر آثار الدموع في مقلتيه، لو تسربت إحداها على جلده لاحرقه لهيبها، كأنها تخرج من أزيز الروح، من وعاء يغلى ويفور أحس بأسراب من النمل تسري في جسده، وأشواك تلهب أعضاءه كأنه يتقلب عليها، الألم تراه في عينيه، تسمعه فى صوته، أصبحت أناته تقتل، وآهاته توجع، بالكاد ينطق لسانه، تحشرجت الكلمات في حلقه.

بتقول إيه يا دكتور: دا بيتي، دي شقتي، عملتها من عرقي وشقايا وتعب سنين عمري، أنا اللي بانيها طوبة طوبة... فوء ياهندسة، الشقة دي في بيت أبونا ميراث أختي وملكش فيها مسمار... بتقول إيه يا دكتور: أختك ورثت السطح بس، وأنا بنيت الشقة عليه وشطبتها وفرشتها من دمي وتعبي سنين طويلة، إمال لو مكنتش إنت بنفسك عارف كل حاجة، ولسة نوته الحسابات جوة في المكتب، تحب تشوف أنا صرفت عليها كام.

بالراحة يا باشمهندس بالهدوء: لو معاك مستندات ملكية وريهالي أنا مش عايز حسابات، أنا عايز عقد بيع موثق في الشهر العقاري.

بتقول إيه يا دكتور كمال: أوراق إيه، وعقد إيه، ومستندات ملكبة إيه، اللي إنت عايزهم مني... يا أم علياء يا مصطفى، يا ياسر، تعالوا شوفوا خالكم عايز يطردني من بيتي، سامعة أخوكي، سامعين خالكم، أنتم موافقين على كلامه، إنتي عندك فكرة إنه جاي.

ينظر الجميع إليه ببرود ولم يتكلم أحد، يعني موافقينه، هو فيه إيه، وإيه اللي حصل في الدنيا، هي القيامة ها تقوم ولا إيه، مش أنا اللي جوزت إخواتكم التلات بنات، وإنت يا مصطفى في الجامعة وتامر في الثانوية العامة، هو أنا قصرت معاكم في إيه، في حد كان بيصرف عليكم غيري، دا أنا لسة مخلص مطبخ بنتين منهم مع بعض من شهرين، وإنتي يا هانم مش فاكرة لما إتجوزتك من تلاتين سنة، فاكرة أبوكي مدفعش جنيه واحد، لما خذتك بهدوم البيت ورحنا كوم أمبوا وقلت لك متقلقيش الإستراحة بتاعت الشغل مفروشة كويس، وها نفرش شقتنا براحتنا مش محتاجين عفش من أبوكي، وفاكرة كانت أختك وأخت الدكتور سلمي واخدة طلبات لمطبخها من الحاج سامي بتاع الأدوات المنزلية وأنا اللي ضمنتها، ولما ما قدرتش تسدده، أنا سددته مكانها، ولا أنتم نسيتوا الايام، وفاكرة لما إتنقلت الهيئة في الزقازيق بعدها بكام سنة وكان معانا بنتين واشتريت غرفة أطفال، هو أنا دفعتك وقتها مليم واحد، والتلاجة فاكرة لما جبتها بالقسط على المرتب وغيرت لك البوتاجاز، وبعدين لما إتنقلت الإدارة هنا المنصورة وسكنت عندكم في الدورالأرضي، كنت بأدفع إيجار الشقة وشطبتها على حسابي، وعملت مدخل من الجهة القبلية من برة علشان وقتها قولتي لي مش عايزة أدخل مع إخواتي من مدخل البيت العمومي، ولما أبوكي مات، مش أنا اللي بنيت الشقة دي وشطتبها وفرشتها من جيبي في الدور الثالت، وبلطت كمان السطوح، وعملت لك غرفة فوق للطيور.

رد عليه كمال: بهدوء وكأنه ماسمع شئ من كلامه: الخلاصة يا هندسة ولادك أدامك أهم، هما مش عايزينك، وما على الرسول إلا البلاغ.

نهاية مؤلمة

ينظر المهندس ماهر للجميع في ذهول، لا يستطيع الكلام، يتلعثم لسانه، لا ينطق بكلمة واحدة، يتناول شنطة سفر قديمة من فوق الدولاب، يضع فيها بعض الملابس، يمد يده ويتناول ما يستطيع من الكتب، ثم يغلق الشنطة ويتحرك بإتجاه باب الشقة، لا ينظر وراءه، لا يحس بقدميه، إلي أين يذهب الساعة الثالثة صباحا، ماهذا الذي يحدث له، إنه وقت السحر، وقت المناجاه، وقت نزول ملائكة الرحمة، وقت علاقة الرب بالعباد، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه... ينزل ويستند بصعوبة على السلالم، يخرج الي الشارع ، يحس أنه يتدهور، يتحطم من الداخل، ينهار بالكامل، لأول مرة يبكي، لا يدري من هو، من يكون، لا يشعر بما حوله، لقد حطم الظلم كبرياءه، جعله هشا ضعيفا ذليلا، لا يملك من أمر نفسه شئ، أحس أنه أصبح دميه في أيادي حمقى غبية متغطرسة، ظنت أنها تملك كل شئ، تعرف كل شئ، تتحكم في كل شئ، برغم أنها في الأصل لا شئ.

تعثرت خطأه بشدة، نظر ببطئ الي السماء، ينظر حوله لا يستطيع السير، ترتفع ضربات القلب، يستند إلى حائط مجاور، يجلس ببطء تقل الرؤية أمام عينيه، يحس أنه يرى سرابا، قطرات الندى تبلل جبينه، غيوم السماء يراها بقلبه، يرى إتساعا يحيط به من كل جانب، يتطاير شريط الماضي سريعا يمر بذاكرته... يحس بشلل في قدميه يكاد يرتفع الي أعلى، تنقبض أحشاءه ببطئ، يضيق صدره إنه إعياء غريب لم يعشه من قبل، يرى نفسه ترتفع الي السماء الي عالم آخر، غادر الدنيا صعد الي السماء... لقد مات صديقي.

ليلى الشبراوى

ليلى الشبراوى

كاتب

Laila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ