
ثمة بلاد تمنحك صورًا، وبلاد تمنحك ذكريات، وأخرى تفتح قلبك لتسكب فيه نورًا، والبرتغال واحدة من تلك البلاد التي لا تزورها لتراها فقط، بل لتشعر بها، لتسمع نبضها وتتنفس طاقتها وتلمس دفء روحها البسيطة والعميقة في آنٍ واحد.
هي وطن صغير بحجم الخريطة التي تظهر عليها، لكنها متسع من الشعور؛ بلدٌ يتقن فن الفرح الهادئ، والجمال الذي لا يحتاج ضجيجًا ليبقى في القلب طويلًا.
لشبونة مدينة تمشي فيها الذكريات إلى جانبك

حين تصل إلى لشبونة، تشعر بدخولك مدينة خلقت للحكايات؛ شوارعها مرصوفة بحجارة بيضاء وسوداء تتلألأ تحت ضوء الشمس، كأنها عقد لؤلؤ يزين عنق التاريخ.تتقاطع الأزقة كخيوط حكاية قديمة، تفوح منها رائحة البن الطازج وصوت موسيقى الفادو ينساب من نافذة مفتوحة، ينطق بلغة الحنين والذهول والرقة.
الترام الأصفر يتهادى ببطء وكأنه يدعوك لأن تمشي بسلام، أن ترفع رأسك لتنظر، أن تتوقف قليلًا لتتنفس الجمال، وفي كل منحنى، بيت بلونٍ مختلف، شرفة معلّقة عليها زهور، وحياة صغيرة تتفتح كابتسامة طفل.
في مقاهي بايرو ألتو القديمة، تتكئ السعادة على الكراسي الخشبية، ويتمدد الحلم في فناجين القهوة، حيث يجلس الغرباء متقاربين، كأن المدينة تقرب بين القلوب بطريقتها الخاصة، ببساطة العربات القديمة وروح الناس الذين يضحكون كثيرًا، دون مقدمات ودون مناسبة، فقط لأن الحياة تستحق أن تُعاش.
روحٌ إنسانية تلمسها قبل أن تفهمها

يمتلك البرتغاليون سرًا يصعب وصفه؛ فرحهم يشبه الهواء؛ بسيط، خفيف، لكنه ضروري. لا صخب زائد، ولا ابتسامة مصطنعة، بل دفءٌ يشبه حرارة الشمس التي تلامس جدران العاصمة عند الغروب.
سترى كبار السن يجلسون على المقاعد العامة يراقبون الطيور، أطفالًا يركضون في الضوء كأنهم يطاردون أحلامًا تطير، وسيداتٍ يعلقن الغسيل على الشرفات ويتحدثن مع الجيران بضحكاتٍ عالية، وكأن كل يوم عيد صغير.
يؤمنون أن الفرح لا يحتاج إلى مناسبة؛ يكفي أن تكون على قيد الحياة، وأن يكون البحر قريبًا.
بورتو مدينة تكتب التاريخ على صفحة الماء

إن كانت لشبونة قلب البرتغال الحالم، فبورتو روحها العتيقة التي تعرف قيمة الصمت؛ مدينة تشرب التاريخ كما تشرب نبيذها الشهير، وتترك طعمًا متدرجًا في الروح؛ حلوًا في بدايته، دافئًا بعده، ثم عميقًا كحكاية لم تُحكَ كاملة بعد.
على ضفاف نهر الدورو، تلمع الجسور المعدنية مثل خيوط ضوء تشد المدينة إلى السماء، ومع كل خطوة، تحتك قدماك بحجارة تحمل ذاكرة البحارة، رائحة الأندلس، وبصمة مسافرين عبروا هنا ذات يوم وتركوا في المكان شيئًا منهم.
مدينة يعرف فيها الزمن كيف يمشي ببطء، وكيف يترك مساحة لترى روحك في انعكاس الماء.
مدن صغيرة كقصائد تُكتب بالضوء

حين تغادر المدن الكبرى، تبدأ الحكاية؛ بلدات صغيرة مثل سينترا وكويمبرا، لا تحتاج إلى مقدمات لتأسر قلبك؛ قصور تتوج التلال مثل ألف ليلة وليلة، وغابات تشبه مدخل حلم، وسكون يلف المكان كمعطفٍ حريري.
وفي الجنوب، شواطئ الألغارف تتمدد مثل صفحة فضية، أمواجها تلامس الرمال كرسائل من البحر. صوت الأطفال، رائحة الملح، وضوء الشمس الذي يسقط على كل شيء بهدوء ملكي، كلها تفاصيل تقول أرض خُلقت ليكون فيها الجمال سهلًا، قريبًا، بلا حدود.
جزء من القلب يبقى في جزر الأزور

ثم، بعيدًا عن ضوضاء العالم، جزر الأزور، عالمٌ آخر، جنةٌ تنام على حضن المحيط، تحتضن البحيرات البركانية، الجبال الخضراء، والضباب الذي يلف كل صباح كأنه وشاح من الحرير على كتف الأرض.
تتعلم أن الطبيعة ديكور، وأيضًا كائن حي يتنفس معك، يراك، يسمعك.
الزهور البرية، جمال المراعي، مياه الشلالات التي تتساقط برقة كأنها ذكريات تُغسل من القلب؛ كل ما فيها يذكرك إن الجمال الحقيقي لا يحتاج مجهودًا لتراه؛ فهو موجود، حاضر، صادق.
نبض عربي في قلب أوروبا

ثمة شيء في البرتغال يشبهنا، ربما العمارة التي تعيدك إلى الأندلس، وفي البلاط المزخرف الذي يحكي تاريخًا عربيًا صامتًا، وفي الأبواب الخشبية الثقيلة التي تشبه أبواب بيوتنا القديمة، وفي القلب.
في الطريقة التي تُفتح بها البيوت للقادمين، في دفء الحديث البسيط، في احترام التفاصيل الصغيرة، في تلك اللمعة في العين التي تقول: “نحن أهل، حتى لو افترقت الأسماء واللغات.”
البرتغال تحمل إرثًا يمتد إلى ضفافنا، وتشترك معنا في الحنين، في الشعر، في الحب الذي لا يحتاج إلى تفسير.
المدن الساحلية حيث تتكلم الأمواج لغة القلب

في الغرب الأطلسي، حيث يلتقي صوت البحر مع نسيم السماء، تمتد مدن صغيرة قد لا تذكرها العناوين الكبرى في كتب السفر، لكنها تحفظ في قلبها نوعًا خاصًا من السحر.
كاشكايش، تلك القرية الساحلية التي تحولت إلى جنة صغيرة، تفتح ذراعيها مثل حكاية بحرية، ترى فيها الأزواج يمشون متشابكي الأيدي، الأطفال يصنعون قلاعًا من الرمل، والبحر يغني على إيقاع مده وجزره.
تجلس على صخرة تتأمل الأمواج، فيصير صوت البحر مثل صلاة هادئة، يذكرك بأن السكينة غياب الأصوات لحضور ما نحب.
ونازارِه، مدينة الأمواج العملاقة، تخشى البحر وفي نفس الوقت تعانقه بقوة، هنا، تجد الشجاعة تتجسد في وجوه أشخاصَا يواجهون أمواجًا شاهقة، وكأنهم يرقصون مع الخطر. حتى لو لم تكن من عشّاق المغامرة، يكفي أن تشاهد البحر لتشعر أنك أقرب إلى الحياة، وأكثر قدرة على الابتسام.
التراث اجتماع الشرق والغرب في نغمة واحدة

حين تمشي في الأزقة القديمة، سترى ظلال الأندلس؛ أبواب مقوسة، نقوشٌ تشبه قصائد عربية محفورة على حجر الزمن، ساحات صغيرة تذكرنا بالبيوت العربية التي كانت القلوب فيها قبل الجدران.
هذا الاتصال بين الشرق والغرب نَفَس، إحساس دفين في كل زاوية كأن البرتغال تهمس للعرب: "لقد مررتم من هنا، وما زال حضوركم حيًا."
جمال يصنع المصالحة بين الثقافات، ويجعل من السفر جسرًا لا جدارًا، ومن التراث حوارًا لا حنينًا.
مذاقات بلغة حب

في البرتغال، الطاولة مسرحًا للعلاقات الإنسانية، تجلس، فيأتيك الخبز الدافئ كتحية، ثم زيت الزيتون الذي يشبه ذهب الأرض، وتليه أطباق صغيرة تنبض باللذة؛ سمك طازج يشبه رائحة الموانئ، بطاطس مطهوة برفق مع أعشاب تشرق نكهتها في الفم، ومعجون فلفل يترك أثرًا صغيرًا يشبه الذكرى.
ولا تنسَ باستيل دي ناتا، ذلك القرص الصغير من الكريمة والفرن، الذي يتفتت بين يديك برقة قطن ويتلاشى على لسانك بطعمه الطازج، حلوى تحمل لحظة سعادة مُحاكة بالسحر.
الطعام وسيلة للحب، وبابٌ صغير يدخل منه الدفء إلى القلب.
الموسيقى صوت الأماكن التي تشتاق

ربما لا شيء يشرح روح البرتغال مثل موسيقى الفادو؛ صوتٌ قادم من عمق القلوب، يحمل الحنين بلا دموع، والشوق بلا مأساة، غناء يشبه الضوء آخر النهار، حين لا تكون الشمس ذاهبة تمامًا ولا السماء قادمة تمامًا، فقط مساحة بينهما، مساحةٌ للبوح.
تجلس في حانة صغيرة، والأنوار خافتة، وعازف الغيتار يمرر أصابعه على الأوتار كمن يوقظ ذكرى عاشقة، ثم يبدأ صوت المغنية، صادقًا، هادئًا، يشبه حديثًا مع الروح لا مع العالم. وفي تلك اللحظة، تشعر أن المدن التي تطل على البحار دائمًا تحمل حنينًا ما، حنين إلى الرحيل وحنين إلى البقاء في الوقت ذاته.
الأسواق وحياة تنبض بين اليدين

من الأسواق التقليدية حيث تُعرض الأسماك الطازجة وكأن البحر يقدّم هداياه للناس كل صباح، إلى محال السيراميك التي تشبه معابد صغيرة للفن، حيث الأطباق مزينة بألوان كالنشيد؛ أزرق البحر، أبيض الغيم، أصفر الشمس.
تسير بين الأكشاك، فتلمس الخشب المصقول، روائح البرتقال والليمون، وتستمع لضحكات الباعة الذين ينادونك بلهجة موسيقية، الأشياء لها قلب، والبضائع لها روح، وكل قطعة تبدو وكأن أحدًا صنعها وهو يغني.
الفرح الدائم

في البرتغال، الفرح ضحكة عالية ولحظة صمت على مقعدٍ عند البحر؛ خبز دافئ يؤكل مع زيت الزيتون، موسيقى في شارع قديم، يد عجوز تمسح على رأس طفل، شاب يعزف في الزاوية دون أن ينتظر جمهورًا، وزائر يقف في منتصف المدينة ليقول لنفسه: “كم تبدو الحياة لطيفة هنا.”
بلد تعلمك كيف تحب ببساطة وتعيش بهدوء وتبتسم لأن الأشياء الجميلة لا تحتاج إلى سبب.
حين ترحل تبقى
عند المغادرة، تحمل صورًا، تحمل رائحة بحر، ولحظة هادئة تجلس فيها في قمة تلة تطل على المدينة وتشعر أن قلبك أصبح أكثر أتساعَا من أي وقت مضى.
البرتغال تتركك بامتنانٍ خفيف، بضحكة لم تنتهِ، وبشعور أنك ستعود، لأنك تركت فيها جزءًا منك وهي لم تُغلق الباب خلفك.
عن الكاتب
Marina Ezzat Alfred
صحافية وكاتبة محتوى
