الرقص عبر التاريخ... بين العبادة وتيك توك!

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولبينما تستمع لأغنية وتتمايل على إيقاعها، أو تصفق بحماس وتأثر لعروسين يرقصان برومنسية وسط الساحة في حفل زفافهما. هل سبق وفكرت بأول رقصة في التاريخ؟ بالتأكيد لم يكن البشر أول من رقصوا على هذه الأرض، لقد رقصت الأمواج وهي تسابق بعضها البعض، ورقصت أغصان الأشجار وسط النسمات العليلة، ورقص عصفوران في موسم تزاوج، وفراشتان حول زهرة.. فلقد كان للرقص معانٍ كثيرة قبل أن يصل إلى "بحيرة البجع" أو الرقص تعبيراً عن السعادة أو حتى الرقص من أجل جلب المزيد من المشاهدات عبر تطبيق"Tik tok" المشهور عالمياً.
الرقص كطريقة لطلب اليد:
إذا أراد ذكر فرس النهر الطيف والثقيل أيضاً طلب يد فرس نهر أنثى للزواج فعليه أن يجيد الرقص! لابدّ أنها مهمة صعبة في ظل رشاقة المسكين المعدومة، لكنه مضطر لذلك كي تعجب الأنثى به وتوافق على الزواج منه. ليس فرس النهر الوحيد الذي يقوم بهذه المهمة رغم أنه قد يكون أكثر من تسبب له الإحراج والمعاناة. صنفت مجموعة كبيرة من ذكور الحيوانات والطيور المختلفة كراقصين ماهرين بهدف طلب الزواج من الإناث أو كتمهيد بينهما قبل إتمام التزاوج. من تلك الحيوانات: البجع، النحل، الثعابين، الأسماك، اليعسوب، الخنافس، الشمبانزي، الكنغر، الزرافات، خنازير غينيا اللطيفة، الدببة، وحتى حيوان الكسلان! يمثل الرقص في عالم الحيوان أسلوب رومنسي للوقوع في الحب وإثارة إعجاب الشريك، بطريقة مشابهة جداً لأحد أهدافه الكثيرة لدى البشر الآن.

الرقص من أجل الآلهة:
لا يوجد معلومات موثّقة عن كون رجال الكهف الغابرين قد رقصوا كي يحوزوا على إعجاب نسائهم كما في عالم الحيوان. إذ أنهم كانوا منشغلين بالصيد وملاحقة نساء أخريات على الأغلب! كما نعرف فإن البشرية عاشت لزمن طويل في ظل العبادات الوثنية، فقد عبد البشر أشياء عديدة وغريبة كالشمس والنار والأصنام قبل أن يتوحدوا تحت راية الأديان السماوية. في تلك الفترات البدائية من تاريخ الإنسان كان لابدّ من القيام بطقوس معيّنة لكسب رضا الآلهة المزعومة، وإذا كانت قد خطرت لك للتو صورة الهنود الحمر تنتصب فوق رؤوسهم ريشة يشكلون حلقة في "رقصة حول النار" فأنت على حق. إن هذه الرقصة كالعديد من الرقصات الوثنية كانت بهدف استسماح الآلهة وطلب الغفران منها والتوسل من أجل الرحمة. وجدت العديد من النقوش والرسومات على الأواني الفخارية وجدران الكهوف العميقة تمثل نساءاً ورجالاً يتشاركون الرقصات، وذلك في العديد من المناطق في أوروبا وغيرها. ويرجع تاريخ أول سجلات مكتوبة للرقص إلى حوالي 4000 عام إلى قدماء المصريين. حيث كان الرقص عنصراً مهما في الاحتفالات الدينية لتكريم الآلهة وموميائات الملوك.

تعال نحتفل بالمحاصيل:
لاحقاً عندما أستوطن البشر القرى وزرعوا الأرض واستأنسوا المواشي واضعين اللبنة الأولى للحضارة تغير الهدف الجوهري للرقص، وربما من هنا بدأ الرقص يصبح تعبيراً جماعياً عن الاحتفال والفرح. رغم أن الرقص استمر بكونه فعلاً جماعياً موجهاً نحو الآلهة، إلا أن الهدف منه لم يعد التوسل من أجل أنهار تفيض أقل وبراكين تنام أكثر. بل أصبح الهدف من الرقص الشكر على الأمطار الغزيرة والاحتفال بالمحاصيل الزراعية الوفيرة التي ستغطي حاجة القرية من الطعام في الشتاء القارس. وفي احتفالات القرية السعيدة يلتقي العازبون كما في أغنية فيروز تلك، فيصبح العيد عيدين، عيد للحصاد الوفير، وعيد العازبين حيث يتوقفون عن كونهم عازبين ويلتقون بنصفهم الآخر ليكملوا الرقصة سوياً، معيدين للرقص فطرته الرومنسية الأولى حيث يجتمع كائنين بهدف الحب!
الرقصة المحظورة!
في العصر اليوناني القديم، كان الرقص يستخدم كفن أدائي في المسرح. ورغم أن الرقص كان قد تراجع لفترة وجيزة خلال العصور الوسطى حيث تم ربطه مثله مثل معظم الفنون بالكفر والخطيئة. لكنه عاد إلى نشاطه من جديد بحلول عصر النهضة. وقد شهد انتعاشاً أكبر في الحفلات الملكية الباهظة. إلا أن بعض الرقصات لم تكن محبذة في البلاط الملكي نتيجة التّماس الشديد للثنائي أثناء الرقصة. من منا لم يسمع برقصة "الفالس"؟! إنها أقدم رقصة صالونات في العالم! وعلى الرغم من أنها واحدة من أكثر الرقصات ممارسة في أوروبا الآن، إلا أنها كانت محظورة لسنوات طويلة في ألمانيا والنمسا. وبحلول القرن الثامن عشر لاقت هذه الرقصة دعماً كبيرً من قبل موسيقيين مهمين أمثال "فرانز شوبرت" و"يوهان شتراوس الابن". لقب الأخير ب"ملك الفالس" وذلك لتأليفه موسيقى خاصة بتلك الرقصة. أنتهى الأمر بأغنية "فالس على نهر الدانوب" التي ألفها "شتراوس الابن" بأن تصبح النشيد الوطني غير الرسمي للنمسا! البلد التي حظرت هذا النوع من الرقص لعقود!
الرقص الحديث:
لم يترك القرن الواحد والعشرين شيئاً على حاله، بما في ذلك الرقص. دخلت أنواع جديدة إلى هذا المجال، فلم يعد فن الباليه الذي انتشر في أوروبا كافياً. احتاج الجيل الجديد حركات رقص تعبر عن الحياة السريعة التي يعيشونها فابتكر اللاتينيون السالسا والتانجو وغيرها، وتوجه الأمريكيون للهيب هوب والجاز.. فيما طور العرب الرقص الشرقي وأبدعوا به. كما أصبح الرقص اليوم معتمداً من قبل الكثير من صناع المحتوى على مختلف منصات الإنترنت لجلب المشاهدات.

فرس النهر الذي يتراقص ليغري أنثى بهدف التزاوج، الرجل في الكهف الذي يرقص كي يتجنب غضب الآلهة، تحية كاريوكا التي رقّصت قلوب العرب، ومايكل جاكسون الذي ألهم برقصه أمة كاملة. والشاب الذي يرقص عبر تيك توك، هؤلاء وغيرهم ساهموا في جعل تلك الظاهرة الإنسانية الفريدة تتطور هزّة هزّة، وخطوة خطوة، لنرقص مع كوكبنا المميز على إيقاع واحد.
المراجع:
https://www.researchgate.net/publication/270031029_Dance_in_Prehistoric_Europe
https://www.scvths.org/cms/lib/NJ02210742/Centricity/Domain/107/Egyptian%20Dance.pdf
https://concert-vienna.com/blogs/viennese-things/viennese-waltz-a-scandalous-dance-that-became-a-viennese-icon