
بدأ الشعر الأبيض يغزو رأسي بعد رحلة من الشقاء لا تنتهي لعلي من ذاك النوع الذي يكره النوم، يلازم العمل ويصادقه كمن يرتبط بأولاده لا يكاد ينتهي في مكان حتى يبحث عنه في مكان آخر، إلي أن وصلت إلى محطة خريف العمر.
جلست ذات يوم للتأمل ومشاهدة رحلة القطار الذي إستقلني خلال المرحلة السابقة من العمر من البداية حتى اليوم فلم أجد نفسي خلال تلك الرحلة، وجدت دراسة، وجدت نجاحات، وإرهاقات، وجدت منزل وزوجة وأولاد، وجدت مجتمع يحبني ويقدرني ولكني لم أجد أهم شئ داخل ذلك القطار، لم أجد نفسي لم أجد روحي، لقد تذكرت شيئا خلال الرحلة وهي نصيحة لواء قريب كنت أعرفه عندما قابلني في القاهرة فى احدى الحدائق بمصر الجديدة عند إلتحاقي بالقوات المسلحة وإصطحبني في إحدى الليالي لنتسامر، وعندها سألني ماذا فعلت لنفسك، لابد أن تترك مكانك الحالي وتسكن القاهرة حتى ترفع من شأنك، وكان ردي أن هذه مبادئ ولا يمكن أن أتخلى عن قريتي وكل من يعمل معي منها فكانت نصيحة هذا الرجل المخضرم لي وقتها: (إذا حاولت أرضاء الجميع ستخسر نفسك لا محالة).
والآن وفي هذه الرحلة وجدت نفسي وحيدا ولا أجدني فيمن شاهدهم خلال رحلة القطار، ولازلت أحدث نفسي: ولكن ما يحدث لك الآن هو خيالات، وأكرر علي نفسي، لولا الخيال هنا ما إشتقنا للجنة وللقاء الله عز وجل هناك.
وأظل أبحث عن يوم أحس فيه بأمان من نوع خاص، أحتاج أن أستريح من تلك الغربة التي أرهقت كاهلي، فبعض الأمان يكمن في تفاصيل صغيرة وأشياء تافهة لا قيمة لها، لكنّها إكتسبت قيمتها ممن لامسوها، وحملوها، وإرتدوها، أو استعملوها، أو أهدوها لنا، وربّما لموقف مرّ بنا وهي حاضرة فصرنا نشعر بالأمان عند حضورها، أتذكر ذاك القميص الذي كنت ألبسه دائما برغم وجود الكثير في ضلفة دولابي... الفنجان الذي ما زلت أتناول قهوتي فيه رغم أنه يوجد أحدث منه وأفضل منه، الجائزة التي أعطاها لي مدرس الرياضيات وأنا في الصف الثالث الإعدادي، ما زلت أحتفظ بها حتى الآن لأنّها من مدرس بعينه كنت أحبه ولازلت أحبه بعد وفاته... الطريق الذي كنت أذاكر فيه في طفولتي الملئ بالأشجار دائما وأحب ان أتمشى فيه حتى اليوم برغم انه أصبح خاليا من الأشجار... الزهرة التي قطفتها نجلاء من حديقة الجامعة وتركتها لي على المقعد وإنصرفت مع رفيقاتها فهرولت، ولازلت أحتفظ بها وجففتها بين صفحات كتاب قديم بمكتبتي، تذكّرني بها على الرغم من أنّها ربما لا تتذكّرني اليوم.
ثم تحدثني نفسي: أخرج من سجن العالم الإفتراضي، وعِش حياتك علي حقيقتها ولا تبحث عن سعادتك في الآخرين، وإلا ستجد نفسك وحيداً وحزينا، بل إبحث عنها داخل نفسك، وستشعر بالسعادة حتّى لو بقيت وحيداً... ولكي تعيش حياة الروح الغنية عليك أن تتغير بإستمرار طبقاً لقوانينك الخاصـة، فالحياة أقصر من أن تمضيها في الشكوى والندم، جرب أن تحب من يعاملك بإحترام، ولا تعطي إهتمام لمن يعاملك دون ذلك، كل شيء في الحياة يحدث لسبب، فلا تفوت فرصة يمكن أن تغير بها حياتك للأفضل، ولا تنتظر حبيباً باعك، وإنتظر ضوءاً جديداً يمكن أن يتسلّل إلى قلبك الحزين، فيعيد لأيّامك البهجة، ويعيد لقلبك نبضه الجميل، ولا تحاول البحث عن حلم خذلّك، وحاول أن تجعل من حالة الإنكسار بداية حلمٍ جديد، ولا تقف كثيراً على الأطلال خاصّةً إذا كانت الخفافيش قد سكنتها، والأشباح تحسست طريقها... وإبحث عن صوت عصفور يتسلّل وراء الأفق مع ضوء صباح جديد، ولا تنظر إلى الأوراق الّتي تغيّر لونها وبهتت حروفها، وتاهت سطورها بين الألم والوحشة، سوف تكتشف أنّ هذه السّطور ليست أجمل ما كتبت وأنّ هذه الأوراق ليست آخر ما سطّرت.
ويجب أن تفرّق بين من وضع سطورك في عينيه، ومن ألقى بها للرّياح، لم تكن هذه السّطور مجرّد كلامٍ جميلٍ عابر، ولكنّها مشاعر قلبٍ، عاشها حرفاً حرفاً، ونبض إنسان حملها حلماً، وإكتوى بنارها ألماً... وإذا اإكتشتف أن كل الأبواب مُغلقه، وأن الرجاء لا أمل فيه، وأن مَن أحببت يوماً قد أغلقوا مَفاتيح قلوبهم، وألقوها في سراديب النسيان، هنا فقط أقول لك: إنّ كرامتك أهم بكثير مِن قلبك الجريح ، حتّى وإن غطّت دِماؤه سماء هذا الكون الفسيح، فلن يفيد أن تنادي حبيباً لا يسمعك، وأن تسكن بيتاً لم يعد يعرفك أحد فيه، وأن تعيش على ذكرى إناس فرّطوا فيك بلا سَبب، ولا تفرط فيمن يشتريك، ولا تشتري مَن باعوك، ولا تحزن عليهم، فإن لم تجدُ شيئاً يفرج عن هُمومك إكتفي بالله، فَهو وحده كفيل بأن يزيل كل همومَك، عندما تبكي فأنتَ لستَ بحاجةٍ لشخصٍ يساعدكَ لأن تتوقف عن البكاء، بل كلُ ما تحتاجُ إليهِ، أن تسجد له ويخشع قلبك فتبكي بين يديه حينها ستحس بالراحة والأمان، والدفئ والحنان... وإعلم انك تعيش لحظات من العمر ستزول ولن تخلد فيها، وتأكد أن الشيء الذي لن أستطيع أنا ولا أنت ولا جميع البشريّة أن تستوعبه هو الخلود في هذه الدنيا، وأن لكل شيء نهاية، الحزن له نهاية، السعادة لها نهاية، الطريق له نهاية، الحياة نفسها لها نهاية... وإعلم أن الدنيا كلها بيد الله وحده، هو الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي... هو الذي ربط بالحب القلب بالفؤاد حتى يأتي الولد، فلولا الحب ما إلتف الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا حنا الجبل على الجبل في الوادي المنعزل، ولا أمد الينبوع الجدول الساعي نحو البحر ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع، ولا كانت الحياة، ومن أعرض عن ذِكري فإن له معيشة ضنكا، وكُل منا يحمل في قلبه هماً ما وحزناً ما وربما أيضاً جرحاً ما، ولكن برغم ذلك الهم أو الحزن أو الجرح ما زال هناك متسع لإحتضان هموم وأحزان وجروح غيرنا، ومعانقة قلوبهم، وليس إختلاف نفوسنا هو إختلاف سعادة وشقاء وإنما إختلاف مواقف، فهناك نفس تعلو على شقائها وتتجاوزه وترى فيه الحكمة والعبرة.
وكُن على يقين أن الحياه مع الله أجمل حياه، ومن كان بعيداً فهو في شقاء دائم.
وتلك نفوس مستنيرة ترى العدل والجمال في كل شيء، وتحب الخالق في كل أفعاله، وهناك نفوس تمضُغ شقاءها وتجترّه وتحوله إلى حِقد أسود وحَسد أكّال، ندرك حينها أن دروس الحياة تختلف عن الدروس التي تعودنا عليها في المدارس والجامعات... ففي الحياة نحن نخوض التجربة أولاً سواءاً كانت سعيدة أو مؤلمة حزينه، نعيشها ونتأثر بها، وبعدها نتعلم وكثيراً ما نتغير، لذلك لا تحزن مهما حدث لك وتبسّم، فالتجربة التي لا تميتك هي بالفعل تجعلك أقوى وأفضل، عِشْ حياتك بكل ثِقَة، فإن الله يعلم ما لا تعَلمه أنت، ويخطط لك بأفضل صورة هو يراها لَك... والبسطاء دائما هم من يمتلكون أرواحا نادرة جدًا، تجدهم بمظهر متواضع، لكنهم بمحتوى باهض وراقي، ينعمون بهدوء النفس، لأنهم يمتلكون كنز القناعة والنصيحة هنا: حاول ، تعلم، جرب أن تفعل شيئاً مميزاً في حياتك، وتعلم كيف تطبقه على أرض الواقع، جرب وستجد أن العملية أسهل مما كنت تتوقع، فلا يوجد إنسان خالي من الهموم، ولكن هناك من يتذكر أنها دنيا فيبتسم وأن الإخلاص ليس عمود الحب فقط بل عمود كل شيء، فلا أتخيل حب بلا إخلاص.
وعندما كنت أتساءل لماذا يتغير الأشخاص فجأة، لماذا بعد إعتقادك أنك أصبحت جزءاً أساسي بحياة أحدهم يتخلي عن وجودك تماماً... والسبب ببساطة كله يكمن داخلك ذلك العطاء المبالغ فيه والتنازل عن الحق، والإهتمام الزائد، وتمرير الأخطاء وزيادة التقدير لشخص يعرف أنه ليس جدير بكل هذا التقدير، وأنت حين تضع أحد فوق قدره فأعلم تماماً أنه سيضعك تحت قدرك كل ذلك يجعلك حق ثابت مكتسب بلا قيمة، مضمون لا تستحق بذل مجهود، عنصر سهل المنال، لأننا كبشر قد نقدر المعروف والحب، لكن لا نملك القدرة على تقدير الإحسان ولا نرى فضله، بل نراه ضعف والنتيجة يتغير البعض بعد أن يتأكدوا من حبك الشديد وتعلقك بهم.
لذلك أرجوك لا تنقل شعور حاجتك إلى الطرف الآخر، مهما بلغ حبك وتقديرك له.... لابد أن يعرف دائماً أي شخص بحياتك مهما بلغ مدى قربه وإعتمادك على وجوده أنك تملك القدرة أن تكون بخير وحدك، دون وجود إنسان إلى جوارك، لا يجب بث الكثير من شعور الحنين، والإفتقاد، والألم العاطفي كمن يموت في البعاد، وذلك ليس إدعاء، أو نوع من الكذب، بل هو حقيقة كاملة أنت لن تموت إلا عند انقطاع الأكسوجين عنك، وهذا الشخص الذي رحل ليس أكسوجين، وعلى عقلك أن يعي هذه الحقيقة، دائما يجب على أي إنسان بذل بعض المجهود كي يبقى بحياتك.
وقد عرفت أخيرا باباً للجمال في زمن القبح، عرفت باباً للرحمة في زمن القسوة، عرفت باباً للسعادة في زمن التعاسة، عرفت باباً للسلام في زمن الحروب التي لا تهدأ.
نافذة الأمل الأخيرة هذه يحاول الكثيرون إغلاقها جهلاً أو خبثاً، ولكني أصبحت أؤمن تماماً أن أصل قضية الإيمان ومنتهاها تكمن هناك في أعمق أعماق القلب، لأن الله هو نافذة الأمل الوحيدة التي لا تغلق، وهو شعاع النور الوحيد الذي لا ينطفئ، وحده وهو الحقيقة المطلقة الراسخة الملجأ الآمن الملاذ الأخير والدائم.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب