🌾 الحياة في العصر الجاهلي 🌾
(قصة أدبية تجمع بين صوت الرجل والمرأة في صحراء المعنى)
في فجرٍ لم يعرف التقويم طريقه بعد، وحين كانت الشمس تُولد من رحم الصحراء كل صباحٍ كأنها تُعيد للكون عهده الأول بالنور، كانت القبائل تمتدُّ على الرمال كأوتار قيثارةٍ عتيقة، يعزف عليها الريح أنغام الحياة والموت. هناك، حيث لا جدران تفصل السماء عن الأرض، عاش الناس في بساطةٍ تشبه العظمة، وفي قسوةٍ تلد الشعر، وفي فوضىٍ تصنع المجد.
كان اسمي زُهَير، شاعرًا من قبيلةٍ عُرفت بالشدة والكرم، نشأتُ على وقع حوافر الخيل، وصهيلها كان موسيقى طفولتي. كنت أستيقظ على ضوءٍ يتسلّل من خيمة أمي، وهي تُشعل الحطب لتصنع قهوتها المرة، وأسمع صوت أبي يُنشد أنسابنا كما يُنشد سورةً من كتاب الخلود. في ذلك الزمن، كانت القبيلة وطن الإنسان، وشرفه، وسيفه، وظلّه حين يشتد لهيب النهار.
غير بعيدٍ عن مضاربنا، كانت خيام قبيلةٍ أخرى تتلألأ عند حافة الوادي، كنجومٍ هبطت على الأرض. هناك وُلدت هند — فتاة كالغزالة، عيناها سوداوان كسواد ليلٍ يحرسه القمر، وصوتها إذا تحدثت، كهمس النسيم على وجه الرمال. كانت تعرف من الدنيا ما يعرفه القلب من العشق قبل أن يُولد الكلام.
التقينا أول مرة في سوق عُكاظ، حيث تتنافس القصائد كما تتنافس السيوف في ساح الوغى. كنت ألقي قصيدتي عن الحرب والمجد، فلما وقع بصري عليها، نسيتُ كل بيتٍ في رأسي، ولم أجد في اللغة ما يصف تلك النظرة التي اخترقتني. وحين مرّت بقربي، هزّني عطرٌ من عشبٍ وليلٍ وسفر، فقلت في نفسي:
> "هذه المرأة وحدها تعرف سرَّ الحياة في الصحراء، تعرف كيف تجمع بين الحنان والهيبة، بين الهشاشة والخلود."
في العصر الجاهلي، كانت الحياة قصيدة مفتوحة؛ لا قوانين تقيّدها إلا الشرف، ولا حدود إلا مدى البصر.كانت المرأة تاج القبيلة، تُحفظ لها الكرامة كما يُحفظ للسيف غمده، وهي في الوقت ذاته تُخشى كما تُخشى النار في جوف الليل.أما الرجل، فكان يعيش بين حربٍ لا تهدأ، ورحلةٍ لا تنتهي، وسعيٍ دائم إلى الخلود عبر الكلمة أو الدم.
تقول هند في صوتها الداخلي — وقد جلست عند طرف الوادي، تراقب الغروب:
> "أعجبُ لهؤلاء الرجال، كيف يطلبون المجد في القتال، بينما المجد كلّه في نظرة أمّ، أو في دمعة حبٍّ تُكتم خوفًا من العيب. نحن نُولد بين الخيام، نحيا لنُزوّج أو نُسبى، ومع ذلك نحمل في صدورنا قلوبًا تضيء أكثر من شموس الصحراء."
وكان زهير، في تلك اللحظة نفسها، يجلس على صخرةٍ في البعيد، يُنصت إلى الريح ويقول في نفسه:
> "ما نفع القصائد إن لم تمسّ قلب امرأة؟ وما قيمة الحرب إن لم تُذكّرنا بسلامٍ لم نعرفه؟"
كانت القبيلة عالمًا مصغّرًا: فيها الشيخ الذي يُفتي بالعرف، والشاعر الذي يُدوّن المجد بالكلمات، والمحارب الذي يفتح أبواب الخلود بحد السيف، والنساء اللواتي ينسجن من الصبر أرديةً للحياة.وفي الليل، حين تهدأ الخيول ويغفو الأطفال، كانت النار تجمعهم — نار الحكمة والحكايات. تُروى الأساطير عن عنترة، وعن ميسون، وعن قيس الذي هام بليلى حتى صار اسمه مرادفًا للجنون الجميل.
ذات ليلة، جاء إلى زهير رسول من شيخ القبيلة، يقول له:
> "ستُشارك في الغارة القادمة على بني تميم. الغد لنا أو علينا."
ابتسم زهير، لا فرحًا ولا خوفًا، بل يقينًا بأن الموت في الجاهلية لم يكن نهاية، بل طريقًا إلى الذكر.وقبل أن يرحل، سار إلى وادي هند، ووقف عند ظل نخلةٍ وحيدة، ثم أنشد بصوتٍ خافتٍ حتى لا يسمعه إلا النسيم:
> "يا ابنة الرملِ، يا سيدةَ الغيمِ،إنّي مقبلٌ على الموتِ كما يُقبل العاشقُ على اللقاء،فإن رأيتِ خيلي عائدةً بلا فارسٍ،فاعلمي أنّي ما متُّ إلا لأنّي أحببتكِ أكثر مما يُحتمل."
سمعته هند، ولم تخرج من خيمتها. بكت بصمتٍ لأن البكاء في الصحراء ضعفٌ لا يُغتفر، لكنها في قلبها كانت تُصلّي للآلهة أن تحفظه.
في صباح اليوم التالي، ارتفعت أصوات الخيول، وبدأت الحرب. الغبار ارتفع حتى غطّى الشمس، والسيوف لمعَت كأنها شظايا برق.كانت الحرب في الجاهلية ليست فقط على الماء أو الكرامة، بل على الوجود نفسه. كل قبيلة تريد أن تثبت أنها الأجدر بالبقاء.زهير قاتل كمن يرقص مع الموت، وكلما أصابت سهامه هدفًا، شعر بأن هند تراه من بعيد.لكن سهمًا غادرًا أصابه في كتفه، فترنّح، وسقطت عليه رائحة الرمال والدم، فابتسم وقال:
> "هكذا يُولد الشعر الحقيقي."
عاد المقاتلون بالنصر، وعاد زهير جريحًا لكنه حيّ. حين علمت هند، خرجت إليه تحت القمر، وهو ممدود على الرمل، والنسيم يُداعب شعره. جلست بقربه وقالت بصوتٍ يختلط بالدموع:
> "قد ظننتُ أن الموت أسرع من الحب، فإذا به أبطأ منه."
ضحك زهير وقال:
> "في الجاهلية، يا هند، الحبّ أيضًا نوعٌ من القتال."
ومنذ ذلك اليوم، صار الناس يروون قصتهما كما يروون أخبار الحروب. صار الشعراء يقولون:
> “من لم يعرف حبّ زهيرٍ لهند، لم يعرف ما هي الحياة في العصر الجاهلي.”
لقد كانت تلك الحياة خليطًا من القسوة والجمال، من الدم والقصيدة، من النار والماء.فيها الجوع والشجاعة، والخوف والعظمة، والمرأة التي تُخفي حبّها كي لا يُقال إنها ضعفت، والرجل الذي يُخفي دموعه كي لا يُقال إنه جبن.كانت الصحراء مملكتهم، والنجوم سقفهم، والكلمة سلاحهم الأقدس.
وفي ختام تلك القصة، تقول هند — وقد شاخت وهي تنظر إلى الأفق:
> "عشنا في زمنٍ كان الجمال يُولد من الخطر، وكان الشرف أغلى من الحياة. لم نعرف القصور ولا الثياب الحريرية، لكننا عرفنا كيف نعيش أحرارًا تحت السماء. تلك كانت حياتنا… في العصر الجاهلي."
ثم تُغلق عينيها على ضوء الفجر، كأنها تُسلم روحها لصحراءٍ لا تعرف النسيان.
وأما زهير، فقد مات بعدها بأعوام، تاركًا قصائد تُتلى إلى اليوم، تُذكّر كل من يأتي بعده بأن الحياة في العصر الجاهلي لم تكن بدائية كما يُقال، بل كانت مدرسةً للبطولة، وجمالًا خفيًا تحت رماد القسوة.
وهكذا، يظلّ صدى حياتهما شاهدًا على زمنٍ علّم الإنسان معنى الكرامة، وعلّم الحبّ كيف يُقاوم الصحراء.

عن الكاتب
مالك علي
فيلسوف
انا طالب في الصف الأول الثانوي ومتعلم اكثر من لغه ولدي خبره في كتابه المقالات