
في صباحٍ ملؤه الفخر والرهبة، احتفلت مصرٌ بافتتاح المتحف المصري الكبير، ذلك الصرح الذي ظلّ في الانتظار لعقود، ليصبح بوابةً جديدةً نحو حكاية حضارةٍ تجاوزت الزمان، ومفتاحاً لمستقبلٍ مشرق من ريادة الأعمال والسياحة.
وفي رحلةٍ أنيقة وشاعِرية، تجمع بين التأمل في الماضي، والتطلُّع للأمام بإيمانٍ، نسلط الضوء على الأثر العميق لهذا الافتتاح على المشهد الاقتصادي والريادي في مصر.
من الحلم إلى الواقع
عندما توجّهت الأنظار إلى هضبة الجيزة، حيث يقع المتحف، حملت الأرض تحت أقدام الزوار احتراماً لقرابة خمسة آلاف سنة من التاريخ؛ فبعد أكثر من عشرين عاماً من التخطيط والتأجيل، شهد العالم افتتاح هذا الصرح الضخم، ووصفت صحيفة «الغارديان» المتحف بأنه “أكبر متحف في العالم مكرّس لحضارةٍ واحدة”.
هكذا، تحوّل الحلم إلى حقيقة، وتحولت الآثار إلى جسرٍ يصل بين إنسان اليوم وإنسان ما قبل التاريخ.
قطاع السياحة إلى رحلة ممتدة
في قلب هذه البقعة التي تنبض بالفراعنة، المتحف مجمع عرض، ورحلةٌ. وفقاً لتقرير وكالة «رويترز»، تأمل مصر جذب حتى سبعة ملايين زائر إضافي سنوياً بفضل هذا الافتتاح، ما يوفر حافزاً حقيقياً لتطوير السياحة الثقافية. ولم يعد الزائر يكتفي بلحظةٍ سريعة من التحديق في تمثال، بل يُشجّع البقاء أطول، الاستكشاف أعمق، والإنفاق أكثر. وقد تحدث خبراء السياحة في مصر أن “تأثيرات المتحف على الزوار تتعدى مجرد الأعداد، حيث التشجيع على الإقامة الأطول، والإنفاق الأعلى، وتحسين صورة مصر السياحية”. وبذلك، ينفتح فصلٌ جديدٌ للسياحة المصرية، فمن الشاطئ والمنتجع إلى التجربة الثقافة المتكاملة، ومن الزائر العابر إلى المغامر الباحث عن رحلة في الزمن.
ريادة الأعمال تنبُت من بين أروقة التاريخ
وليس قطاع السياحة وحده من سيستنشق هواء هذا الانطلاق، فحين يتجمع الزوار من أرجاء العالم، وتُفتَح أبواب فرصٍ لا تُعدّ ولا تُحصى في الخدمات، التجزئة، الضيافة، التقنيات، التسويق الرقمي، يدرك صاحبُ المشروع الوليد أن المتحف ليس فقط معبداً للآثار، بل أرضٌ خصبة لريادة الأعمال.
فقط تخيل الحرفي الذي يصنع مصوغات مستوحاة من رموز المتحف، أو المطوّر الذي يقدم تجارب الواقع المعزّز داخل صالات العرض، أو الشركات الصغيرة التي تُسهّل رحلات الزوار داخل القاهرة، فكلها مشاهد أصبحت أكثر وضوحاً بعد هذا الافتتاح.
ذكر تقريرٌ في صحيفة «فاينانشال تايمز» أن مصر تراهن على هذا المشروع لاستقطاب زوّار “ذوي إنفاق أعلى” وتحويل علامتها إلى وجهة سياحية فاخرة بثقافة الغوص العميق، لا مجرد صورةٍ سريعة.
وهنا تكمن الرؤية؛ جذب السياح وخلق اقتصاد متكامل حول التجربة؛ تجربة تتطلب العديد من الخدمات، منصة رقمية، تصميمًا، تطبيقات، تنقّلاً، مقاهٍ، مطاعم، فنادق، وكل ذلك يفتح مساراتاً جديدة للفرص الريادية.
التراث العربي بلمسة عالمية
يُستلهم المتحف من جذرٍ عربيٍّ أصيل، لكنّ رسالته تُوجّه للعالم؛ ففي مساره يجمع بين الأصالة والتأثير العالمي، ليقول: “نحن هنا، بتاريخنا، بحاضرنا، ونرغب بالمشاركة مع العالم”. وقد ألمحت صحيفة «لوموند» إلى أن المتحف مشروع ثقافي، وكذلك منصة لتعزيز مكانة مصر في المشهد العالمي، كحارسٍ للتراث وحامٍ لقصص الإنسانية.
ومن هذا المنظور، يدعو المتحف رواد الأعمال إلى أن ينظروا إلى الأسواق ليس من منظور محلي فقط، بل من منظورٍ عالمي؛ كيف يمكن لمنتج أو خدمة أن تؤثر في زائرٍ من نيويورك أو شنغهاي بقدر ما تؤثر في زائرٍ من مصر؟ كيف ينفتح الفكر الريادي على العالم من خلال زاويتنا العربية المميزة؟
البنية التحتية... دعامةُ الحلم
ما يجعل هذا المشروع أكثر من مقرّ عرض، هو أن الدولة عمدت إلى ربطه بسلسلة دعم كاملة من البنية التحتية؛ فقد شهدت مداخل الجيزة إصلاحات كبيرة، مرافق النقل تم تطويرها، ومطارٌ جديدٌ تمّ افتتاحه لتسهيل الوصول إلى هضبة الجيزة.
أشارت وكالة «رويترز» إلى أن “الطرق الموصلة للمتحف أعُيد تأهيلها، وثمة مطاراً جديداً وُضع بالقرب منه لتجنب الاختناق المروري”. وهذا يعني أن قصة المتحف داخل الجدران، وتمتدّ إلى الحواضر، والطرق، والدوائر التي تخدم الزائر، وفي كل خطوةٍ من وصوله، وفي كل لحظةٍ من تجواله، تُستنهض الإمكانيات الريادية؛ من النقل الذكي إلى الخدمات اللوجستية، من الإرشاد الذكي إلى التطبيقات السياحية المبتكرة.
أثرٌ اقتصاديٌّ ثابت وليس فخّاً قصيراً
من المهم أن لا نغفل أن هذا المشروع يأتي في ظرف اقتصادي يحتاج إلى دعمات ملموسة، حيث تنظر الحكومة المصرية إلى المتحف كمصدر للعملة الصعبة، وكرافدٍ لتعزيز عوائد السياحة.
وفي هذا السياق، ريادة الأعمال لا تقتصر على فكرة “فتح مطعم جديد بجانب المتحف” بل تشمل أفكاراً أعمق؛ منصّات تسويق رقمية، خدمات ترجمة ذكية، برامج تعليمية تُشغّلها الشركات الصغيرة، بالإضافة إلى الاستفادة من الحرف المحلية بلمسة تصميم عصري.
فرص منتظرة
يظهر جليّاً أن الفرص التي تُفتح أمام الرياديين أعمالٌ تصنع مستقبلَها: “المتحف وضع اتفاقيات مع الجهات الدولية، عرض نفسه في اليابان، ودعا المستثمرين للمشاركة” كما ذكرت الصحف العالمية.
لحظةٌ تواجه فيها الرؤية العالمية للطبيعة الفرعونية المصرية مع سوقٍ معاصرة تبتكر وتعيد اختراع نفسها.
عهدٍ ينتظرُ من يكتبه
حينما توقّف ذلك الزائر تحت تمثال رمسيس الثاني أو أمام خشبيّة تابوت الملك “توت عنخ آمون” ومعه شعورٌ بأن الحجر يتكلم، وإحساسٌ بأن الوقت ليس فقط ماضياً؛ تلك هي اللحظة التي يبدأ فيها الحلم.
والمتحف المصري الكبير بداية لحوارٍ بين الأمس والغد، بين ما صنعناه للحضارة وما نصنعه اليوم للإنسان.
ولرواد الأعمال في مصر اليوم، هذه اللحظة تُمثّل منبراً: هنا يبدأ العرض، كيف ستشارك؟ وللسياحة، هي دعوةٌ إلى أن يُصبح الزائر شاهدٍ، مشاركٍ، مغامرٍ، ينسجُ ذكرياتٍ في فضاءٍ يتجاوز المُعتاد.
ولمصر، هي رسالة: تراثٌ يلتقي الحاضر، وفخامةٌ لا تطغى، بل تحتضن الإنسان وتجربته.