
فِي أَحْشَاءِ مَدِينَةٍ عَتِيقَةٍ، تَتَرَاقَصُ فِيهَا أَنْوَارُ المَقَاهِي الخَفِيفَةُ وَتَتَعَالَى أَصْوَاتُ الضَّحِكَاتِ المُصْطَنَعَةِ، كَانَ يَعِيشُ شَابٌّ اسْمُهُ "نَوَافٌ". لَمْ يَكُنْ نَوَافٌ كَسَائِرِ الشَّبَابِ، فَقَدْ ارْتَضَى لِنَفْسِهِ دَرَباً مُظْلِماً، سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الوُشَاةِ وَالنِّدْمَاءِ الكَاذِبِينَ. كَانَ "نَدَلًا"، يُرَائِي الأَقْوِيَاءَ وَيَتَمَلَّقُ الأَغْنِيَاءَ، يَبِيعُ طِيبَ صِيتِهِ بِدَرَاهِمَ قَلِيلَةٍ وَوَعُودٍ كَاذِبَةٍ.
كَانَ يَقِفُ عَلَى أَعْتَابِ مَقْهًى لِلْقِمَارِ، يُرَحِّبُ بِالزَّبَائِنِ بِبَسْمَةٍ مُلَقَّاةٍ وَعَيْنَيْنِ تَخْتَبِئَانِ خَلْفَ قِنَاعِ الخَدِيعَةِ. يَنْقُلُ الأَخْبَارَ السِّرِّيَّةَ، وَيُحَرِّضُ بَيْنَ الخُصُومَ، وَيَبِيعُ سِرَّ صَدِيقٍ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. ظَنَّ نَوَافٌ أَنَّهُ يَخْطُفُ مِنْ دُنْيَاهُ أَحْلَى مَا فِيهَا، غَافِلاً عَنِ الجَمْرِ الَّذِي يَتَجَمَّعُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
وَذَاتَ لَيْلَةٍ، بَيَنمَا كَانَ نَوَافٌ يُنَصِّتُ إِلَى سِرٍّ عَظِيمٍ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ، طَمِعَتْ نَفْسُهُ الأَشِرَةُ فَبَاعَ السِّرَّ لِغَرِيمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. لَكِنَّ الأَمْرَ لَمْ يَكُنْ كَالْمَرَّاتِ السَّابِقَةِ. لَقَدْ كَانَ السِّرُّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ عَظِيمٍ وَعِرْضٍ كَرِيمٍ. لَمَّا عَلِمَ الرَّجُلُ الغَنِيُّ بِخِيَانَةِ نَوَافٌ، اِسْتَشَاطَ غَضَباً، وَلَمْ تَكُنْ هَدِيَّتُهُ لَهُ إِلَّا نَارَ حِقْدٍ لَا تُطْفَأُ.
أَصْبَحَ نَوَافٌ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحَاهَا طَرِيداً. اِنْقَلَبَ أَصْحَابُ الأَمْسِ إِلَى أَعْدَاءَ، وَتَحَوَّلَتْ البَسَمَاتُ المُصْطَنَعَةُ إِلَى نِظَرَاتِ احْتِقَارٍ وَوَبَالٍ. لَمْ يَعُدْ لَهُ مَكَانٌ فِي تِلْكَ الأَرْجَاءِ الَّتِي كَانَ يَرْتَادُهَا. حَاوَلَ الْتِمَاسَ الأَمَانِ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَخْدُمُهُمْ، فَرَمَوْهُ بِحَجَرِ الجُحُودِ وَأَغْلَقُوا دُونَهُ الأَبْوَابَ.
وَجَدَ نَفْسَهُ أَخِيراً فِي زَاوِيَةٍ مُظْلِمَةٍ بِأَحْيَاءِ المَدِينَةِ الدَّنِسَةِ، يَلْتَهِمُ نَدَامَتُهُ الْتِهَامَ الجَائِعِ لِفُتَاتِ الخُبْزِ. نَظَرَ إِلَى يَدَيْهِ وَقَدْ صَارَتَا خَالِيَتَيْنِ، لَا تَحْمِلَانِ إِلَّا وَسَخَ الخِيَانَةِ وَغُبَارَ الذُّلِّ. أَدْرَكَ حَقِيقَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ سوى أَدَاةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فِي أَيْدِي الآخَرِينَ، يُلْقَوْنَ بِهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ غَرَضِهَا.
لَمْ تَكُنِ النِّهَايَةُ مَوْتَاً بَالرَّصَاصِ أَوْ بِالسِّلاحِ، بَلْ كَانَتْ أَشَدَّ وَأَمَرَّ. نِهَايَةُ رُوحٍ انْكَسَرَتْ، وَقَلْبٍ أُصِيبَ فِي صَمِيمِ إِنْسَانِيَّتِهِ. عَاشَ نَوَافٌ بَقِيَّةَ أَيَّامِهِ شَرِيداً، نَدَبَ حَظَّهُ العَاثِرَ فِي صَمْتٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي جَمَعَهُ قَدْ ذَهَبَ أَدَباً، وَأَنَّ الْعُمْرَ الَّذِي أَضَاعَهُ فِي التَّمَلُّقِ وَالْخِدَاعِ لَنْ يَعُودَ أَبَداً.
فَقَدْ عَلَّمَتْهُ الحَيَاةُ دَرْساً أَلِيماً: أَنَّ مَنْ يَبْنِي قَصْرَهُ عَلَى أَكْذُوبَةٍ، سَرْعَانَ مَا تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ إِلَى حَفِيرَةِ النِّدَامَةِ وَالْعَارِ.