
الحلقة الثانية: جمر تحت الرماد
كان الظلام الذي يلف الشقة منكّراً لوجود يزن، لكن صفارة هاتفه كانت تثقب هذا الصمت كإبرة ملتهبة. نظر يزن إلى الشاشة تتلألأ باسم "سمر" وكأنها شمعة في نهاية نفق طويل.
"سمعت ما حدث..." بدأت صوتها يحمل همساً من الحذر والتعاطف.
"كلهم سمعوا." قطع عليها يزن بصوته الأجش. "لكن أحداً لم يستمع لي."
كانت سمر الشريك الوحيد الذي بقي له في هذا العالم - الهاكر العبقرية التي كانت دوماً خلف شاشاتها تتلصص على أسرار الوكالة من ثغراتها الرقمية.
"لدي شيء قد يهمك" قالت سمر بجدية. "قبل ستة أشهر من مهمتك، كان هناك حادث مماثل في قاعدة أبحاث شمالية. تقرير سري يشير إلى فقدان بيانات حساسة، والعميل المكلف بالمهمة... اختفى."
"لماذا لم أسمع عن هذا من قبل؟"
"لأن الملف أخفي تحت تصنيف 'أطلانطس' أيضاً. وأعتقد أنهم اختاروك لأنك الأفضل، يزن. وأيضاً....
يزن: وأيضا ماذا
لأنك الأكثر استقلالية. لو فشلت، لن يفتقدك أحد."
كانت الكلمات كالسكاكين. لكنها كانت الحقيقة.
كتم يزن مشاعره بقوة فولاذية"ما الذي تعرفينه عن هذا المشروع؟" سأل يزن وهو يتحسس كدمة على رأسه لم تلتئم بعد.
"كل ما أعرفه أن 'أطلانطس' ليس مجرد مشروع لصنع جندي خارق. إنه أبعد من ذلك. هناك تقارير عن تجارب بيولوجية-عصبية، محاولات لتعطيل مراكز الخوف والشك في العقل البشري. لكن كل المسارات تؤدي إلى طرق مسدودة."
في تلك اللحظة، سمع يزن صوت زجاج يتحطم في المطبخ. لم يكن وحيداً.
"سمر، اتصل بي لاحقاً." همس وأغلق الهاتف.
تسلل نحو المدخل برقة القط، عيناه تعتادان على الظلام. شاهد ظلاً يتحرك في المطبخ - رجل يرتدي بزة سوداء، يفتش الأدراج باحترافية.
"تبحث عن شيء؟" قال يزن بصوته الهادئ الذي يخفي العاصفة.
دار الرجل بسرعة مذهلة، مسدس في يده. لكن يزن كان أسرع. ركلة خاطفة أطاحت بالمسدس من يد الرجل، ثم قبضة حديدية على معصمه.
"من أرسلك؟" هز يزن الرجل بعنف.
ابتسم الرجل ابتسامة مشؤومة، ثم عض شيئاً في فمه. في ثوانٍ، انهار جسده مغشياً عليه.
"سم!" فهم يزن.
بحث في جيوب الرجل فوجد فقط هاتفاً محمولاً نظيفاً، ومفتاحاً غريباً عليه شعار: دائرة بها مثلث مقلوب.
عاد إلى هاتفه ليجد عشرات الرسائل من سمر: "لقد اخترقت كاميرات المبنى. هناك ثلاثة آخرين يصعدون إلى شقتك الآن! اخرج من هناك!"
لم يكن الوقت كافياً للهروب. نظر حوله بسرعة، ثم تسلق إلى فتحة التهوية في السقف قبل أن يدخل الآخرون.
من مخبئه، سمع الرجال يتحدثون:
"لا يوجد شيء هنا."
"الهدف غير موجود."
"نظفوا المكان وانسحبوا."
راح الرجال برش سائل على كل الأسطح - منظف أدلة متطور. ثم غادروا كما جاءوا، أشباحاً في الليل.
بعد أن تأكد من رحيلهم، نزل يزن من مخبئه. الشقة أصبحت نظيفة بشكل مرعب. كأن شيئاً لم يحدث. لكن شيئاً واحداً بقي - المفتاح الغريب الذي وجده في جيب الرجل.
أرسل صورة للمفتاح إلى سمر.
"هذا مفتاح خزينة في محطة القطارات المركزية" ردت سمر فوراً. "نظام قديم. كيف عرفتي؟"
"لأنني اخترقت نظام شركة الخزائن الأسبوع الماضي للتمرين." قالتها بسعادة واضحة.
في محطة القطارات، وجد يزن الخزينة المقابلة للمفتاح. بداخلها ظرف بني وفيه هاتف محمول قديم، وبطاقة ذاكرة.
عندما شغّل البطاقة على حاسوبه الآمن، وجد نفسه أمام تسجيلات فيديو للدكتور خالد الرحباني - العالم البارز الذي اختفى منذ سنوات.
كانت المقاطع مسجلة في مختبر سري. يتحدث الرحباني عن تجاربه في "تحسين الأداء البشري" ثم يتحول إلى التحذير من استخدام أبحاثه.
في المقطع الأخير، بدا الرحباني مرهقاً، عيناه تحملان نظرة الذعر.
"لقد فقدنا السيطرة" همس في الكاميرا. "المشروع لم يعد حول صنع جنود أفضل، بل حول صنع عبيد أفضل. هم يريدون تحويل البشر إلى آلات طائعة. وإذا شاهد أحد هذا التسجيل، فاعلم أنني ربما أكون ميتاً، لكن الحقيقة يجب أن تعيش. ابحث عن الحارس الأخير."
ثم أضاف بكلمات كانت بمثابة خريطة كنز: "ابحث حيث ينام الحديد ويصحو النهر."
انتهى التسجيل.
"حيث ينام الحديد ويصحو النهر..." كرر يزن الكلمات.
"مصنع الحديد القديم على نهر المدينة!" صرخت سمر متحمسة. "إنه المكان الوحيد الذي ينطبق عليه هذا الوصف."
في تلك اللحظة، بدأ الهاتف القديم الذي وجده في الخزينة بالاهتزاز. رقم مجهول.
أجاب يزن بصمت.
"عليك بالتوقف" قال صوت معدني من الطرف الآخر. "لقد تركتك تعيش مرة، لكن ليس مرة ثانية."
"من أنت؟" سأل يزن.
"اعتبرني... مدير المشروع. وأنت تهديد للاستثمار."
"أخبرني عن الظل الذي هاجمني."
"ذلك كان النموذج 01. لدينا الآن 02 و03 و04... التطور يسير بسرعة، يا يزن. وأنت تعيق التقدم."
"أين الدكتور الرحباني؟"
"الرحباني كان... غير متعاون. مثلك تماماً." ثم انقطع الاتصال.
نظر يزن من نافذة شقته إلى المدينة الممتدة تحت النجوم. كان يعرف أن الطريق أمامه خطير. لكن شرارة التحدي في عينيه كانت قد اشتعلت إلى نار متقدة.
"سمر" قال في الهاتف. "هل أنت مستعدة للذهاب في رحلة صيد؟"
"أعتقد أن الصيد قد أتى إلينا" ردت سمر بخشوعة. "انظر إلى الشارع."
نظر يزن إلى الأسفل. ثلاث سيارات سوداء قد توقفت أمام مبناه. رجال يرتدون بزات سوداء يخرجون منها... وأحدهم طويل القامة بشكل غير طبيعي، عيناه تلمعان بضوء أزرق باهت في الظلام.
النموذج 02 قد وصل.
أمسك يزن بمفتاح سيارته، وعيناه لا تفارقان الظل في الأسفل.
لقد أمسك يزن طرف الخيط
خيط أطلانطس
الحلقة السابقة
- {"content":"","items":[]}
📚 المراجع
مشروع أطلانطس (الحلقة الأولى)
كانت رائحة الغبار والمعادن الباردة هي العطر الدائم لقبو "الوكالة". وقف يزن سلمان أمام شاشة العرض العملاقة، صور التقطتها الأقمار الاصطناعية تنتقل بسرعة مذهلة، كل
تصفح المرجع ↗- {"content":"","items":[]}