رواية «مالك بن نبي» في صفحات : لبّيك ... حجّ الفقراء
"لبّيك: حجّ الفقراء":
رواية "لبّيك: حجّ الفقراء" هي المؤلَّف الوحيد الذي قدّمه الكاتب و المفكّر الجزائريّ الرّاحل «مالك بن نبي» في شكل أدبيّ و سرديّ. عُرف عن «مالك بن نبي» اهتمامه و تركيزه على الإنسان ضمن معادلته الشّهيرة (الحضارة = الإنسان + التّراب + الزّمن)، و في رواية "لبّيك : حجّ الفقراء" نجد «مالك بن نبي» يركّز على الإنسان من خلال تسليط الضّوء على شخصيّة رجل سكّير يتحوّل بين ليلة و ضحاها إلى حاجّ من الحجّاج الميامين! الرّواية كتبها بالفرنسية المفكّر «مالك بن نبي» و ترجمها إلى العربية «الدكتور زيدان خوليف» في ما يقارب 150 صفحة، و فيما يلي إعادة سرد لأحداثها و تفاصيلها بشكل جدّ ملخّص و بأسلوب سلس.
-نزيهة زعبار-
______________________________
حجّ الفقراء ...
النداء:
باستثناء المقيمين في "الجزيرة العربيّة" و المعتادين على مناخها القاسي، يخشى المسلمون الحجّ في موسم الحرّ؛ كم من نيّة مبرورة و كم من أمنيّة بارّة تلاشت أمام فكرة السّعي تحت شمس "مكّـــة"؟! و لكن و في كلّ عام و منذ ثلاثة عشر قرنًا يستجيب الذين هم في أقاصي البلاد المسلمة -و أغلبهم من البسطاء- لنداء عجيب ينبجس في أعماق نفوسهم: (لبّيك، لبّيك) أنا لك يا إلهي.
"عنّابة":
و في هذا العام توافق موسم الحجّ في "عنّابة" مع شهر أفريل؛ شهر البساتين المزهرة، و النّسيم العليل، و أزهار البرتقال. و كأنّ هذا الأريج بالنّسبة للحجيج القادمين عبر القطار من "قسنطينة" ليستقلّوا الباخرة نسمة من رَوْح الجنّة و ريحانها، و كأنّه بشرى بالرّحَمَات من الرّحمن لعباده المخلصين؛ إنّه يزيدهم إيمانا على إيمانهم بينما يردّدون بين طرفي القطار: (لبّيك اللّهم لبّيك).
"عنّابة" اليوم في عرس؛ تستقبل الحجيج الوافدين بالقطارات و الذين كانت باخرتهم قد أرست؛ ينتشرون في المدينة للتّـزوّد بالزّاد الذي يكفيهم للرّحلة، أو للصّلاة في المسجد، و كثير منهم تستضيفهم عائلات المدينة إذ تتشرّف بتقديم آخر الوجبات لهم؛ فالحاجّ ليس ضيفا عاديّا؛ لذا يُستقبل استقبالا حارّا مفعما بالأجواء العائلية و بالعبارات البسيطة التي تكشف عمّا تكنّه النّفس المؤمنة إلى واد بعيد "واد غير ذي زرع".
أمضت "عنّابة" هذا اليوم تحتفل بالحجيج، و كانت الحركة غير عادية قرب محطّة القطار و عند المرفأ منذ اقتراب الباخرة.
الآن، أمست الأزقّة التي كانت تعجّ بالنّاس في الصّباح خالية، و انطفأت أنوار المتاجر الواحد تلو الآخر كما تنطفئ أنوار فوانيس عرس قد انتهى، و لاح القمر ساحبا أشعّته بين الأسطح المتقاربة.
إبراهيم الثّمل:
في واحد من هذه الأزقّة، تراءى طيفا شخصين مترنّحين توقّفا أمام باب دكّان، و تأهّب أحدهما لفتح الباب في حين تمايل الآخر لحظةً ثم استلقى أرضا على امتداد حائط المتجر مخاطبًا صاحبه بصوت مخمور:
_ دبّر أمرك، أنا سأنام هنا...
أمّا الثّاني الذي وُجّهت له هذه العبارة فظلّ يحاول عبثا فتح الباب، غير أنّ توازنه غير الثّابت لم يسمح له بالوصول إلى ثقب القفل، فصبّ جام غضبه على المفتاح العاقّ و على الباب المتمرّد. و قد أتعبته هذه الحرب، راح يغنّي بمقاطع غير مفهومة اللّغة على إيقاع كلّ المخمورين. لقد أزعج بصوته الهدوء الذي كان يسود الشّارع. و فجأة، لاح خيال شخص يتّجه بخطًى صغيرة نحوه.
_ ماذا بعد يا إبراهيم؟ مرّةً أخرى ثملًا؟! أ لا تفكّر أنّك في هذه السّاعة المتأخّرة تزعج جيرانك المساكين؟
_ هل تدري أنّني اضطررت إلى قطع صلاتي حتّى لا أدعك تصرخ طوال اللّيل تحت نافذتي؟
..........
_ أنت مسكين يا إبراهيم، أنت لا تستشعر ذكرى والديك اللّذين كانا مؤمنين تقيّين. كانا يريدان أن تكون شيئا آخر غير الذي أنت عليه الآن.
و أردف الشّيخ قائلا و هو يدخل المفتاح في قفل باب دكّان الفحم ذاك:
_ ليحفظك الله، أدخل، أدخل.
الحلم:
كان اللّيل في آخره عندما استيقظ إبراهيم و هو يحدّث نفسه و يمسح عينيه: " لقد كان حُلُما...".
و هو يستنجد بذاكرته التي أنهكها الخمر، ها هي ذاكرته تتوجّه به مع القطار الدّاخل إلى المحطّة؛ حركة جامحة و جموع غفيرة ينضمّ إليها إبراهيم. يخرج المسافرون من المحطّة و يشتدّ صخب الجموع و تتعالى أصواتهم نحو المسافرين الحجّاج:
_ أنتم السّابقون و نحن اللّاحقون.
_ إن شاء الله! إن شاء الله!
كان إبراهيم قد شاركهم أمنيتهم أيضا، و قد غمره دون أن يعيَ الشّعور الذي كان يخالج الحشد، حتّى إنّه انتهر رفيقه الذي كان معه عندما جرّه بيده مثرثرا باستهزاء و هو يحاول أن يأخذه إلى حانة أخرى؛ فجمع كلّ كرامته التي فرضتها عليه حالته الحزينة تلك ليجيبه قائلا:
_أ تظنّني كافرا مثلك؟ أنت الذي لا تعرف شيئا عن دينك، فأنا قد حفظت ستّين حزبا في حين أنّك لا تحفظ ما يكفي لتأدية صلاتك.
فجأة، و في هذا المكان، انقطع مشهد الذّكريات من ذهنه، و عاد إلى ذاكرته ذلك الحُلُم الذي حاول استشعاره، و تذكّر فجأة:
_ أجل، لقد حلمت بالكعبة.. .
_ أجل، لقد حلمت بالكعبة.. .
شيئا فشيئا بدأ حُلُمه يتّضح، لقد رأى نفسه بلباس الإحرام؛ اللّباس الذي يرتديه الحاجّ خلال أدائه لمناسك الحجّ.
شيئا فشيئا بدأ حُلُمه يتّضح، لقد رأى نفسه بلباس الإحرام؛ اللّباس الذي يرتديه الحاجّ خلال أدائه لمناسك الحجّ.
ظلّ فكره يطارد بلذّةٍ ذلك الحُلُمَ الذي يعتقد أنّه رآه، و بعينين نصف مغمضتين كان يرى نفسه رفقة الحجيج الذين سيبحر مركبهم صباح هذا اليوم قبل منتصف النّهار. كان يرى بين جفنيه و كأنّه خارجٌ من مرفأ "عنّابة" و المركب يعجّ بهتافات الحجيج الملبّية لدعوة الحجّ، و فعلا، جسّد إبراهيم -و دون وعي- المشهد مردّدا بأعلى صوت:
_ لبّيك، لبّيك
لقد فاجأه صوته الشّاذ الذي اخترق صمت المحلّ، لكنّ روحه واصلت ملاحقة حُلُمه الذي أقحم فيه كلّ ما يعرفه من مفاهيم عن الحجّ؛ إذ تعدّ هذه المعارف جزءا من ميراث كلّ عائلة مسلمة.
تبدأ المرحلة الحقيقيّة للرّحلة المقدّسة بالنّسبة للمسلم العاديّ من "شمال إفريقيا" من "بور سعيد" الذي ينطقه حجّاج "المغرب الكبير" "البرّ السّعيد" أين تبدأ مجموعة من التّفاصيل تشدّ اهتمام الحاجّ ابتداءً من دخوله البحر الأحمر فتذكّره تارة بحدث دينيّ و تارة أخرى بمنسك يجب القيام به.
تذكّر إبراهيم جدّته العجوز التي كانت تسحره بقصصها الرّائعة، وذكرياتُ عمر ذهبيّ تُطربُه، و الحنينُ يجتاحُه إلى ماضيه العائلي؛ إلى والده، و إلى أمّه، و إلى طفولته.
فجأة، تسلّل إلى قلبه إحساس بالخطأ بسبب وجوده هنا، في محلّ الفحم، و على هذا الفراش الحقير. و بدأت نشوة الحُلُم الذي رآه في نومه و في يقظته تتلاشى حين أدرك حالته الرّاهنة و الأشياء القاتمة التي تحيط به. و انتابه إحساس بالاختناق جعله يعتدل متّكئا على ذراعيه فوقع نظره على قدميه الممدودتين و المنتعلتين حذاءه القماشيّ الذي لم ينزعه منذ البارحة حين تهاوى على فراشه.
فجأة، تسلّل إلى قلبه إحساس بالخطأ بسبب وجوده هنا، في محلّ الفحم، و على هذا الفراش الحقير. و بدأت نشوة الحُلُم الذي رآه في نومه و في يقظته تتلاشى حين أدرك حالته الرّاهنة و الأشياء القاتمة التي تحيط به. و انتابه إحساس بالاختناق جعله يعتدل متّكئا على ذراعيه فوقع نظره على قدميه الممدودتين و المنتعلتين حذاءه القماشيّ الذي لم ينزعه منذ البارحة حين تهاوى على فراشه.
أحسّ إبراهيم بخجل مضاعف من فردتي حذائه: حذاؤه الذي لم يكن يلبس مثله سوى (أولاد الحرام) مثلما يطلق على السّفلة في "الجزائر"؛ فحذاء كهذا بالنّسبة إلى النّاس الطّيبين من الجيل السّالف لا ينتعله إلّا قطّاع الطّرق أو أشخاص في منتهى النّذالة لكي يفاجئوا غيرهم دون إصدار صوت أو للفرار بسرعة.
أحسّ إبراهيم بخجل مضاعف من فردتي حذائه: حذاؤه الذي لم يكن يلبس مثله سوى (أولاد الحرام) مثلما يطلق على السّفلة في "الجزائر"؛ فحذاء كهذا بالنّسبة إلى النّاس الطّيبين من الجيل السّالف لا ينتعله إلّا قطّاع الطّرق أو أشخاص في منتهى النّذالة لكي يفاجئوا غيرهم دون إصدار صوت أو للفرار بسرعة.
هذا الحكم المسبق بقي في العائلات الشّريفة، و قد ورثه إبراهيم من تربيته في الطّفولة و مازال متأثّرا به حتّى هذه اللّحظة.
ابتلع إبراهيم ريقه و كأنّه جرعة من المرارة يصحبها شعور بالخجل و بالألم لم يعهدهما منذ زمن طويل، و تخلّص -وهو يختنق غيظا- من حذائه مثلما يتخلّص أيّ إنسان من خزي أو من وصمة عار.
مرّت الذّكريات في مخيّلة إبراهيم الذي لم ينتبه إلى حاله المزرية و المخزية منذ أمد بعيد؛ هذا الوضع الذي يعبّر عنه صبيان أزقّة "بونـــة" بلقب (بوقرعة) أي صاحب قارورة النّبيذ.
في أوّل الأمر، كان يجد في نفسه قوّة ليردّ بطريقته على إهانات هؤلاء الصّبية و وقاحاتهم عن طريق بعض البذاءات أو ببعض التّهديدات، و لكن منذ وقت طويل تلاشت فيه هذه القدرة على المجابهة و صار غير مبالٍ بسخرية الأطفال؛ فعندما يحكم الوسط الاجتماعي على شخص ما فالأطفال هم الذين يصدرون الحكم بشراسة؛ إنّهم القضاة المدافعون عن المصالح، و الأعراف، و التّقاليد. و تساءل في نفسه و هو يطفئ خيط الشّمعة التي تطلق دخانا منذ مدّة:
_ كيف يمكن التّخلّص من هذه الأحكام؟
الأذان: الفكرة - المعجزة
فجأة، انطلق صوت مؤذّن الفجر الذي اخترق السّكون الذي يلفّ المدينة النّائمة و بثّ في أزقّتها الخالية الصّدى الدّاعي إلى الصّلاة:
_ الله أكبر! الله أكبر!
فجأة، انطلق صوت مؤذّن الفجر الذي اخترق السّكون الذي يلفّ المدينة النّائمة و بثّ في أزقّتها الخالية الصّدى الدّاعي إلى الصّلاة:_ الله أكبر! الله أكبر!
هذا الصّوت أيقظ فيه أصداءً بعيدةً؛ تذكّر والده الذي كان ينهض في مثل هذا الوقت لكي يتوضّأ و يصلّي، و حين ردّد الصّوتُ نداءه الأخير على المدينة النّائمةّ: (حيّ على الفلاح! الله أكبر! لا إله إلّا الله) تراءى له بغموض تناقض ما كان قد تجلّى بداخله من قبل. في هذه اللّحظة كان إحساسه بالاستسلام إلى المكتوب (القدر) و ذلك الانجذاب الذي أحدثه صوت المؤذّن في نفسه يتصادمان. لكنّ طبيعته حادت به عن التّفكير في مثل هكذا تناقض؛ فعقله كان يرفض حلّ هذا الجدال الشّائك الذي تشمئزّ منه نفسه، و اكتفى سرّا فقط بترديد قول المؤذّن: "حيّ على الفلاح".
و حين ردّد الصّوتُ نداءه الأخير على المدينة النّائمةّ: (حيّ على الفلاح! الله أكبر! لا إله إلّا الله) تراءى له بغموض تناقض ما كان قد تجلّى بداخله من قبل. في هذه اللّحظة كان إحساسه بالاستسلام إلى المكتوب (القدر) و ذلك الانجذاب الذي أحدثه صوت المؤذّن في نفسه يتصادمان. لكنّ طبيعته حادت به عن التّفكير في مثل هكذا تناقض؛ فعقله كان يرفض حلّ هذا الجدال الشّائك الذي تشمئزّ منه نفسه، و اكتفى سرّا فقط بترديد قول المؤذّن: "حيّ على الفلاح".
هذه العبارة التي لخّصت حالته النّفسية في هذه الدّقيقة تناهت إليه مثل صدًى لحوار داخليّ كان قد أفلت من شعوره، فأحسّ بخفّة روحه و كأنّها تخلّصت من قيودها الثّقيلة التي كان يظنّ أنّها لن تنفكّ عنه أبدا.
"حيّ على الفلاح"
فجأة، أحسّ بنفور تجاه المكان و تجاه كلّ الأشياء القاتمة المحيطة به فأراد الخروج، و تنبّه أنّه منذ زمن بعيد لم يشهد طلوع الفجر و لم يستنشق نسيم الصّباح العليل.
فجأة، أحسّ بنفور تجاه المكان و تجاه كلّ الأشياء القاتمة المحيطة به فأراد الخروج، و تنبّه أنّه منذ زمن بعيد لم يشهد طلوع الفجر و لم يستنشق نسيم الصّباح العليل.
النّهار لم يطلع بعد، و قد خيّم ضباب خبّازيّ على الزّقاق. وجد إبراهيم رفيقه المستلقي على الأرض و كأنّه تكوّم على كتفي الباب:
_ قم، قم، لتنام في مكاني.
امتثل الرّجل أمر إبراهيم دون احتجاج و ذهب للتّمدّد على الفراش. أطفأ إبراهيم الشّمعة ثمّ خرج بعد أن أغلق الباب خلفه.
تردّد لحظة في الخارج ثمّ اتّجه بعفويّة نحو الشّمال باتّجاه المسجد الذي لاحت له منارته. تملّكه إحساس بالضّيق شلّه و منعه من تخطّي الباب و كأنّ قوّة ما تدفعه إلى الوراء. إنّه يعرف هذه القوّة التي تمنع كلّ مسلم من تجاوز عتبة المسجد أو من تناول المصحف إذا لم يكن على طهارة. رفع إبراهيم عينيه متضرّعا و قد فاضت عيناه بالدّموع التي انهمرت على خدّيه ثمّ رفع بصره إلى السّماء متمتما:
_ يا ربّ اشفني من شروري فأنا مريض، اهدني سواء سبيلك فأنا ضالّ.
تردّد لحظة في الخارج ثمّ اتّجه بعفويّة نحو الشّمال باتّجاه المسجد الذي لاحت له منارته. تملّكه إحساس بالضّيق شلّه و منعه من تخطّي الباب و كأنّ قوّة ما تدفعه إلى الوراء. إنّه يعرف هذه القوّة التي تمنع كلّ مسلم من تجاوز عتبة المسجد أو من تناول المصحف إذا لم يكن على طهارة. رفع إبراهيم عينيه متضرّعا و قد فاضت عيناه بالدّموع التي انهمرت على خدّيه ثمّ رفع بصره إلى السّماء متمتما:_ يا ربّ اشفني من شروري فأنا مريض، اهدني سواء سبيلك فأنا ضالّ.
أضاء نور الصّباح الجديد وجه إبراهيم الذي ما زال مادًّا يديه إلى اللّه متضرّعا و شرع المصلّون بالخروج. كانوا يتحدّثون فيما بينهم بينما يرمي بعضهم بقطع نقدية لإبراهيم:
_ إذن ستقلع باخرة الحجّاج عند السّاعة العاشرة؟
_ هذا المساء أو غدا سوف تقلّ حجّاج "تونس"...
إنّ فكرة إقلاع الباخرة ثبتت بإصرار في ذهن إبراهيم، بل و أوحت إليه بأمر مفاجئ؛ إذ تساءل في نفسه:
_ ماذا لو ذهبت أنا أيضا معهم؟
كان في عَيْنَيْ إبراهيم وميض و كأنّ تيّارا كهربائيّا قد صعقه؛ لقد وجد أخيرا تفسيرا لحُلُم اللّيلة السّابقة. انتفض واقفا في حركة آلية و قد تناثرت بين قدميه القطع النّقديّة التي كان قد تصدّق بها عليه بعض المصلّين. غادر المكان و هو يقول في قرارة نفسه:
_ سيأتي أحد المساكين و يأخذها.
كان في عَيْنَيْ إبراهيم وميض و كأنّ تيّارا كهربائيّا قد صعقه؛ لقد وجد أخيرا تفسيرا لحُلُم اللّيلة السّابقة. انتفض واقفا في حركة آلية و قد تناثرت بين قدميه القطع النّقديّة التي كان قد تصدّق بها عليه بعض المصلّين.
اتّجه إلى حمّام شعبيّ و اغتسل بسرعة، و عندما خرج كان يبدو كأحد الأشراف، و كانت تقاسيم وجهه تدلّ على نبل.
أمسك بحلقة البرونز المثبّتة على الباب و المخصّصة لطَرق الباب فردّ عليه صوت امرأة من الدّاخل:
_ من هناك؟
_ أخبري عمّي محمّد أنّ إبراهيم الفحّام يودّ رؤيته.
..........
_ ماذا يا إبراهيم؟ أ هي عربدة أخرى من عربدات هذه اللّيلة؟
أحسّ إبراهيم ببعض الحرج، و ردّ عليه معتذرا:
_ لن أعوذ إلى ما كنت عليه يا عمّي محمّد.
ردّ عليه الشّيخ مازحا و هو يودّ معرفة الغرض الحقيقي من هذه الزّيارة:
_ يا إبراهيم، هذه يمين سكّير.
_ يا إبراهيم، هذه يمين سكّير.
لكنّ إبراهيم ردّ عليه بحزم:
_ أبدا، هذه المرّة هي يمين حاجّ. أجل يا عمّي محمّد، لقد جئت إليك في هذا الوقت على السّادسة صباحا لأنّني مستعجل، و أنا أريد أن أذهب مع الحجّاج الذين سيغادرون اليوم قبل الظّهر مهما كلّفني الأمر؛ لأجل كلّ هذه الأسباب جئتك يا عمّي محمّد. أريد منك أن تبيع المنزل هذا الصّباح، و من جهتي سأتولّى الإجراءات... يعيننا الله.
_ أبدا، هذه المرّة هي يمين حاجّ.
تأمّل الشّيخ إبراهيمَ الذي لاحظ في وجهه، و في هيئته، و في نبرات صوته شيئا جديدا. لقد اهتزّت روحه المؤمنة لوقع المعجزة التي تحقّقت أمام عينيه؛ معجزة "الحاجّ إبراهيم" !! كانت بحقّ معجزةً بالنّسبة للشّيخ الذي أمسك بمعصم محدّثه في حركة أبويّة و قال له:
_ إذا أراد الله شيئا فإنّما يقول له كن فيكون.
لم يحصل إبراهيم على جواز سفر الحاجّ المعتاد بل على شهادة تثبت أنّ المعني مستوف لكلّ الشّروط الإداريّة، و عندما وصل إلى زقاقه فكّر بالذّهاب إلى المحلّ لرؤية صاحبه أوّلا قبل رؤية عمّه محمّد:
_ ماذا، هل ستفتح محلّك الآن؟
_ محلّي أنا؟! إنّه لك منذ الصّباح.
كان سيطلب إيضاحا لولا دخول العمّ محمّد:
_ هل استلمت جواز سفرك يا إبراهيم؟ أرى أنّك قد اشتريت ملابس الإحرام، هذا جيّد، فلم يبق لك إلّا خمس دقائق كي تأتي معي إلى المنزل من أجل أن تتناول آخر وجباتك قبل الرّحيل. يجب أن تخرج من المنزل ككلّ الحجّاج و ليس كمن لا بيت له، و فضلا عن هذا فكلّ الجيران يدعونك ليودّعوك.
يجب أن تخرج من المنزل ككلّ الحجّاج و ليس كمن لا بيت له، و فضلا عن هذا فكلّ الجيران يدعونك ليودّعوك.
كانت زوجة الشّيخ في انتظارهما و قد عبّقت الغرفة التي خصّصت لاستضافة الحاجّ بالبخور. استقبلته بحنان حرّك فيه مشاعر عدّة:
_ لا بدّ أنّ والديك سعيدان الآن يا (سي) إبراهيم.
_ لا بدّ أنّ والديك سعيدان الآن يا (سي) إبراهيم.
_ فليرحمهما الله يا عمّتي فاطمة.
ردّ عليها إبراهيم و قد ملأته كلمة (سي) التي استعملتها العجوز قبل اسمه بالرّضا و السّرور.
و قد ملأته كلمة (سي) التي استعملتها العجوز قبل اسمه بالرّضا و السّرور.
كانت (الميدة) تلك الطّاولة ذات الأرجل القصيرة الخاصّة بمسلمي "شمال إفريقيا" قد نصبت و أعدّت. أجلسوا إبراهيم في المكان الشّرفي من المائدة. كان العمّ محمّد و العمّة فاطمة يأكلان معه و مع المدعوّين و كان العمّ محمّد يحيطه بآداب الضّيافة.
كانت (الميدة) تلك الطّاولة ذات الأرجل القصيرة الخاصّة بمسلمي "شمال إفريقيا" قد نصبت و أعدّت. أجلسوا إبراهيم في المكان الشّرفي من المائدة. كان العمّ محمّد و العمّة فاطمة يأكلان معه و مع المدعوّين و كان العمّ محمّد يحيطه بآداب الضّيافة.
استأذن إبراهيم و وقف شاكرا العجوزين اللّذين رافقاه، و بينما هو ينتعل حذاءه عند عتبة الغرفة أقبل العمّ محمّد و هو يحمل قفّة ممتلئة قائلا له:
_ هذه مؤونة الطّريق، إنّها لك.
أضافت العمّة فاطمة:
_ لقد أصرّ كلّ الجيران على أن يهيّؤوا لك هذه القفّة.
_ هذه مؤونة الطّريق، إنّها لك............................
_ لقد أصرّ كلّ الجيران على أن يهيّؤوا لك هذه القفّة.
ثمّ اقتربت منه و همست في أذنه و هي تمدّ له بيدها قائلة:
_ كانت هذه السّبحة لوالدتك -فليرحمها الله- حافظت زهرة عليها بحرص و عندما علمت برحيلك هذا الصّباح أصرّت على أن ترسلها إليك لأنّها أيقنت أنّك جدير بأن تحتفظ بها الآن.
_ كانت هذه السّبحة لوالدتك -فليرحمها الله- حافظت زهرة عليها بحرص و عندما علمت برحيلك هذا الصّباح أصرّت على أن ترسلها إليك لأنّها أيقنت أنّك جدير بأن تحتفظ بها الآن.
تبسّم إبراهيم للعجوز الطّيّبة حتّى يحبس دمعة في مقلته:
_ أرجوك يا عمّتي فاطمة، أشكري زهرة بدلا عنّي لأنّها أرسلت إليّ بهذا التّذكار في مثل هذا اليوم، أخبريها أنّني سأدعو لها عندما أكون عند النّبيّ... و سأدعو لكم جميعا.
اتّجه العمّ محمّد الذي كان يتوسّط ردهة المنزل بسرعة نحو الباب لكي ينتشل إبراهيم من دوّامة المشاعر فتبعه هذا الأخير بطريقة آلية.
عندما خرج إبراهيم وضع السّبحة حول عنقه و وجد صاحبه عند عتبة المحلّ ينتظر خروجه فتقدّم نحو العمّ محمّد آخذا القفّة من يده.
عندما وصل الرّجال الثّلاثة إلى الميناء، كانت هناك حركة غير عادية، و لم يبق لإبراهيم إلّا خطوات عن العبّارة. تقدّم و هو يردّد دعاءً في سرّه ثمّ توقّف ليأخذ العمّ محمّد في أحضانه و يودّعه الوداع الأخير:
_ سأدعو لك يا عمّي محمّد عند شبّاك النّبيّ.
كانت هذه أقدس خدمة يمكن أن يقدّمها الحاجّ لغير الحاجّ؛ بأن يدعو له باسمه و هو متعلّق بالسّياج المحيط بالضّريح الشّريف؛ هذا السّيّاج المهيب الذي تهفو إليه قلوب كلّ المسلمين بعبارات مفعمة بالأماني و الإيمان.
كانت هذه أقدس خدمة يمكن أن يقدّمها الحاجّ لغير الحاجّ؛ بأن يدعو له باسمه و هو متعلّق بالسّياج المحيط بالضّريح الشّريف؛ هذا السّيّاج المهيب الذي تهفو إليه قلوب كلّ المسلمين بعبارات مفعمة بالأماني و الإيمان.
لفت إبراهيم بصوته انتباه طفل كان على المركب يوصل رزمة لأحد الحجّاج. كان أشعث الشّعر، و حافي القدمين، و يرتدي سروالا كثير الثّقوب كغالبيّة أطفال "بونـــة".
ظهرت الدّهشة على وجه الطّفل فانفجر ضاحكا:
_ يا بوقرعة! يا بوقرعة! أنت أيضا تذهب إلى الحجّ؟!
لفت إبراهيم بصوته انتباه طفل كان على المركب يوصل رزمة لأحد الحجّاج. كان أشعث الشّعر، و حافي القدمين، و يرتدي سروالا كثير الثّقوب كغالبيّة أطفال "بونـــة". ظهرت الدّهشة على وجه الطّفل فانفجر ضاحكا:_ يا بوقرعة! يا بوقرعة! أنت أيضا تذهب إلى الحجّ؟!
اعتبر إبراهيم هذا السّؤال فضول طفل أكثر من وقاحة أو قلّة أدب؛ إنّه في حالة سعادة لا توصف، لم يعد يشعر بالألم عند تذكّر الماضي الذي يرى تفاصيله بوضوح من على المركب الذي بدأ يبتعد عن الميناء.
لم يعد يعنيه الآن هذا الماضي، و كأنّه ماضٍ لشخص آخر، و عند رؤيته لمنارة "مسجد الباي" جنح فكره إلى مشاهد الصّبيحة. لقد تملّكته الدّهشة للحظة كمن تلقّى صعقة كهربائية. ضغط بقوّة على السّبحة على ذكر اسم زهرة، قفزت ذكرى من حياته إلى ذهنه، فكّر في هذه الزّوجة المخلصة التي اختارها له والداه و التي قاست معه الأمرّين. تراءت له من جديد مشاهد من حياته الزّوجيّة التي صبغتها حالات سكره بالسّواد كما تفعل السّحب بالأفق في أيّامٍ عاصفةٍ.
مع أنّها كانت مطلّقة فقد رفضت أن تتزوّج مرّة أخرى إكراما لذكرى حمويها اللّذين أوصياها بابنهما و هما على فراش الموت. تشتغل زهرة بجدّ و تكسب قوتها بشرف خيّاطةً للعائلات البرجوازية كما تتابع عن طريق العمّ محمّد حال زوجها السّابق و سوء تدبّره لأمره.
استرجع إبراهيم ماضيه في لحظة تدبّر. امتزج في ذهنه وجه زهرة الحزين المبتسم مع وجه أمّه المشرق و الممتلئ بالرّضا. ذاب الوجهان فيه و شكّلا رمزا واحدا لطريق مضيء انفتح أمامه فجأة، فأحسّ أنّه نفذ بجلده من إمبراطورية الظّلام.
تذكّر إبراهيم المسبحة مجدّدا، و بينما كان يحاول معرفة السّبب الذي دفع بزهرة لترسلها إليه إذ بيد توضع فوقه بلطف؛ رجل متقدّم في السّن يطلب من إبراهيم أن ينضمّ إلى الجماعة التي ينتمي إليها ليقيم الصّلاة معهم.
لقد بدأ الحجّاج في تنظيم حياتهم اليومية على المركب؛ عادة ما تتشكّل الجماعات حسب الانتماء إلى الفرق الدّينيّة: التّيجانيّة و الأحباب مع بعض، و القادريّة و الإخوان مع بعض، لكن في السّنوات الأخيرة لم تعد هذه التّجمّعات تقام حسب الانتماءات الدّينيّة، و أصبح التّجمّع للتّعايش على المركب لا غير، فإبراهيم الذي لم يكن له أيّ انتماء قَبِل على الفور عرض الحاجّ الذي ارتسمت على وجهه شكوك تجاه إبراهيم و قفّته ظانّا أنّه مسافر من الدّرجة الثّالثة، قال له:
_ أنا و جماعتي ركبنا من " الجزائر العاصمة"، و لقد اتّخذنا مكانا خاصّا بنا على المركب للصّلاة.
لقد كان إبراهيم سعيدا بهؤلاء المرافقين الذين أرسلتهم إليه العناية الإلهية، و كان سعيدا أكثر لأنّه ليس مع حجّاج "بونـــة" حتّى يتجنّب الاستغراب الذي من شأنه أن يبدو على وجوههم.
إبراهيم الحاج:
خلال صلاة الظّهر و التي كانت أوّل صلاة أقامها منذ سنين عديدة أحسّ إبراهيم أنّه انضمّ إلى عائلة الشّرفاء تكسوه عزّة الحاجّ، فالحركات التي كان يقوم بها و الكلمات التي كان يتمتم بها خلف الإمام جعلته يحسّ أنّه انعزل طويلا عن الجماعة الصّالحة كالجنديّ الفارّ من الجيش. و عندما أرخى اللّيل سدوله كان إبراهيم لا يزال على سطح المركب رفقة الحجّاج الذين كانوا يريدون رؤية دخول المركب ميناء "حلق الواد" و لكن البرد دفع بهم إلى الدّخول إلى مخادعهم.
خلال صلاة الظّهر و التي كانت أوّل صلاة أقامها منذ سنين عديدة أحسّ إبراهيم أنّه انضمّ إلى عائلة الشّرفاء تكسوه عزّة الحاجّ، فالحركات التي كان يقوم بها و الكلمات التي كان يتمتم بها خلف الإمام جعلته يحسّ أنّه انعزل طويلا عن الجماعة الصّالحة كالجنديّ الفارّ من الجيش.
و في اليوم التّالي صعد إبراهيم إلى سطح المركب ليتوضّأ بعد أن أيقظته جماعته باكرا لأداء صلاة الفجر. كان المركب راسيا في ميناء "حلق الواد" في "تونس" أين سيصعد آخر حجّاج "شمال إفريقيا".
فجأة، علا صوت صراخ قريب من العبّارة و لاح للحجّاج مشهد محزن بطله رجل و رقباء المدينة الذين كانوا يحاولون بكلّ طاقتهم الإمساك به و هو يحاول بكلّ ما أوتي من قوّة إدراك العبّارة التي بدأت تسحب. كان يشبه الحيوان الضّاري و هو يجري خلف المركب الذي بدأ يبتعد، و عندما فقد الأمل توجّه نحو المركب مادًّا يديه و هو يصرخ:
_ أ رأيت يا رسول الله؟ لقد تركت خيمتي و أولادي كي آتي إليك. لقد قطعت 700 كلم مشيا على الأقدام، و لكنّني لا أستطيع أن أذهب أبعد من هذا يا رسول الله.
أ رأيت يا رسول الله؟ لقد تركت خيمتي و أولادي كي آتي إليك. لقد قطعت 700 كلم مشيا على الأقدام، و لكنّني لا أستطيع أن أذهب أبعد من هذا يا رسول الله.
بكى إبراهيم لآلام الحاجّ المسكين المطرود و لحزنه متسائلا: ماذا لو أنّني تعرّضت للموقف نفسه؟
فجأة، انقطع حديثه الدّاخلي على ضجيجٍ آتٍ من الأسفل من جهة ممرّات الطّابق السّفلي الثّالث. استدار خلفه و إذا بباقي الحجّاج الذين كانوا بجواره يتساءلون:
_ ماذا فعل؟
يقول آخرون:
_ اذهب معه فلن يأكلك!
في هذه الأثناء تردّد صوت طفل باكٍ:
_على وجه ربّي يا خواني... (ظهر و كأنّه يطلب شيئا لم يفصح عنه.)
تعرّف إبراهيم على الطّفل الذي كان يرتدي سروالا قصيرا و الذي لم يكن سوى الفتى الذي ناداه قبل مغادرة "بونة" بالأمس "يا بوقرعة".
أحسّ إبراهيم بالخطر الذي يحيط بالطّفل الذي كان لا يزال يصيح فاستجمع بداخله بعض الكلمات بالفرنسيّة ثمّ تقدّم نحو العامل و خاطبه برقّة و البسمة تعلو وجهه:
_ يا سيّدي هذا الطّفل مسكين يريد أن يحجّ، ليس له أبوان يدفعان عنه المستحقّات، و لكن إن أردت سندفع بدلا عنه... أنا سأفعل.
غير أنّ المحافظ قائد السّفينة قرّر شيئا آخر قائلا:
_ يجب عليه أن يعمل في المطبخ حتّى يأكل من عمل يديه.
رأى إبراهيم أنّ من واجبه أن يقول شيئا للطّفل الذي يسير خلف الرّجل الذي جاء ليأخذه إلى المطبخ:
_ اسمع يا هادي إذا احتجت إلى أيّ شيء فعليك أن تتّصل بي.
بعدها، عاد الحجّاج إلى أماكنهم لتناول الطّعام و الحلويّات: البقلاوة الخاصّة بالعائلات الغنيّة، و المقروض لقاطني المدينة، و الرّفيس للرّيفيّين. عاد الإمام بعد قليل و معه معاونه يحملان طبقين يحويان طعاما عاديا. بدأ الحجّاج يتفحّصون الطّعام. كان الإمام الرّقيب على الطّعام، و بعد أن تذوّق كلّ قطع اللّحم أصدر قرارا:
_ هذا ليس لحم خنزير.
و كرّر إبراهيم الكلام نفسه قائلا:
_ أنا متأكّد من أنّ اللّحم ليس لحم خنزير فقد رأيتهم يذبحون خرفانا وفقا للشّريعة الإسلاميّة كما أنّهم أخبروني أنّ الكمّية تكفي حتّى وصولنا إلى "جـــدّة".
وضع إبراهيم صرّة الحلويّات التي جمعها جانبا ثمّ قال:
_ هذه الحلوى لهادي؛ متأكّد أنّه يأكل بما فيه الكفاية في المطبخ، و لكن الأطفال يحبّون الحلويّات.
...........
_ هادي! هادي!
_ هل أنت بحاجة إليّ يا عمّي الحاجّ؟
_ لا، جئت هنا لأعطيك هذه الحلويّات.
_ عمّي الحاجّ، قل لي، أين يمكنني أن أجدك كي أحضر لك قهوة ساخنة؟ لكن لا تخبر أحدا.
_ أ تذكر المكان الذي رأيتني فيه بالأمس عندما أحضرت الحزمة للحاجّ الذي رفضت أن تقبل منه المال؟ ستجدني هناك. تعال إليّ إن استطعت قبل العصر حتّى تصلّي معنا.
شعر هادي بالحرج و الخجل عندما تذكّر كيف تحدّث مع إبراهيم وقتها، و كيف أنّه ناداه حينها ب"بوقرعة"، و لكنّه راح يجيبه قائلا:
_ أنا لا أعرف كيف أتوضّأ، أرني كيف أفعل ذلك مرّة واحدة فأنا أتعلّم بسرعة.
_ إنّه أمر سهل، عليك أن تتّبع ما أفعله في الوضوء مرّة أو مرّتين.
عند عودته، التقى إبراهيم بالحاجّ المتواطئ مع هادي الذي شرح له القصّة بالتّفصيل:
_ لقد أخذ الفتى أمتعتي عنوة؛ انتزعها انتزاعا من يدي عندما التقيت به غير بعيد عن المركب؛ كان يقبّل يديّ و عيناه تذرفان بالدّموع. و بما أنّني لم أفهم ما يجري طلبت منه توضيحا، عندها أخبرني أنّه يريد الذّهاب مع الحجيج. ظننت في قرارة نفسي أنّها نزوة طفل و حاولت أن أعيده إلى صوابه، لكن حينما وصلنا رفض رفضا باتّا أن يأخذ أجر حمله لأمتعتي.
تذكّر إبراهيم المشهد وأكّد قائلا:
_ فعلا لقد رأيته حين رفض أخذ النّقود. ظننت حينها أنّ الولد لم يشأ أن يأخذ الثّمن من حاجّ تقرّبا من الله.
_ أ ظننت ذلك؟ (ردّ عليه الحاجّ متعجّبا و هو يضحك.)
_ كان يريد فقط دفعي إلى التّواطؤ معه لأمكّنه من الصّعود إلى المركب. شرح لي أنّني سأجد حبلا على سطح المركب و أنّه عليّ فقط أن ألقيه من على السّطح من جهة البحر، و بما أنّنا كنّا على أهبة الإقلاع لم أشأ إطالة النّقاش مع الولد الذي كان مصرّا على رفضه العنيد.
_في حقيقة الأمر و أنا أصعد إلى المركب لم أكن قد قرّرت بعد ماذا أفعل، و لكن لمّا وصلت إلى السّطح رأيت حبلا من جهة البحر تماما كما قال لي الطّفل و كأنّه هو الذي وضعه هناك. بدا لي أنّ القدر قد تدخّل مساعدا في تخطيط هذا الولد الذي صرت متورّطا في قضيته.
كان إبراهيم يستمع بشغف إلى ما قام به هادي ثم قال:
_ آه! هؤلاء هم أطفال "بونـــة"...
كان إبراهيم يستمع بشغف إلى ما قام به هادي ثم قال: _ آه! هؤلاء هم أطفال "بونـــة"...
عندما التحق إبراهيم بمجموعته، كانت تخالجه مشاعر أبويّة نحو هذا الولد الذي وجده على السّطح و قد تحلّق حوله أعضاء المجموعة. كان يفرغ لهم القهوة التي جلبها لهم من المطبخ. عندما رأى الحجّاج الذين كانوا مجتمعين حول دلو القهوة صاحبهم قالوا له و هم يمازحونه بلطف:
_ كيف تتأخّر يا إبراهيم؟ هذا تلميذك ينتظرك من أجل درس الوضوء. واحتفالا بأوّل درس أكرمنا بهذه القهوة اللّذيذة. هل تعلم أنّه لم يرض أن يقدّم لنا منها قبل أن تأتي أنت؟
ردّ إبراهيم و هو يضحك:
_ له كلّ الحقّ في الاحتفاظ بالختمة لمعلّمه. ثمّ خاطب الطّفل قائلا:
_ هل استأذنت حتّى تأتي لنا بهذه القهوة؟
_ إنّ رئيس المطبخ شخصيّا هو الذي سمح لي بأخذها كما سمح لي بإقامة الصّلاة معكم.
أحسّ هادي بعاطفة واهتمام في صوت إبراهيم الآمر كثيرا ما افتقدهما في "بونة". كان يجد رغبة لا شعوريّة في أن يستسلم لسلطة حنونة و واقية.
عندما التحق إبراهيم بمجموعته، كانت تخالجه مشاعر أبويّة نحو هذا الولد الذي وجده على السّطح و قد تحلّق حوله أعضاء المجموعة.
أحسّ هادي بعاطفة واهتمام في صوت إبراهيم الآمر كثيرا ما افتقدهما في "بونة". كان يجد رغبة لا شعوريّة في أن يستسلم لسلطة حنونة و واقية.
عندما ردّد الطّفل التّكبير بوقار راوده انطباع و كأنّه ينجز أوّل شيء جدّيّ في حياته. كان يشعر بأنّ قوّة الصّلاة الخفيّة و الغامضة قد حملت روحه في هذه اللّحظة إلى جنّة لم يستطع أن يحدّد شكلها؛ غبطة اختلطت شيئا فشيئا مع وقاره الطّفوليّ.
_ سأذهب إلى المطبخ و لكن هذا المساء سوف تعلّمني يا عمّي الحاجّ إبراهيم أمور الصّلاة.
وعده إبراهيم دون أن يغيب عن سمعه أنّ هادي قد ناداه لأوّل مرّة باسمه. حينما كان هادي يبتعد أحسّ بالأسف لأنّه ليس بولده. تحسّر لذلك و جنح بفكره إلى زهرة و قد مرّت صورتها بخاطره و هو يتذكّر بادرتها الجميلة بالأمس. تبادر إلى ذهن إبراهيم أن يستعمل السّبحة التي أرسلتها له بالأمس.
في اللّيل بعد الصّلاة كان هادي يفيض عرفانا و تأثّرا عندما قرّر الحجّاج تخصيص مكان له بينهم.
كان متلهّفا لأن يتذوّق نكهة الحياة العائليّة التي كان يفتقدها في "بونة" و هو الذي يحتفظ بذكريات غير واضحة عن خيمة بالية غير بعيد عن جسر يعبر "وادي السّيبوس". ماتت أمّه و لحقها أبوه بعد وقت قصير. يتذكّر هادي كيف كان أبوه يسعل سعالا شديدا و يبصق دما و لم يعد قادرا على العمل. و عندما كبر قليلا اتّخذ له علبة لمسح الأحذية تركها بالأمس لولد آخر أصغر منّه سنّا...
كان متلهّفا لأن يتذوّق نكهة الحياة العائليّة التي كان يفتقدها في "بونة" و هو الذي يحتفظ بذكريات غير واضحة عن خيمة بالية غير بعيد عن جسر يعبر "وادي السّيبوس". ماتت أمّه و لحقها أبوه بعد وقت قصير. يتذكّر هادي كيف كان أبوه يسعل سعالا شديدا و يبصق دما و لم يعد قادرا على العمل. و عندما كبر قليلا اتّخذ له علبة لمسح الأحذية تركها بالأمس لولد آخر أصغر منّه سنّا...
قاطع أحد الحجّاج الولد و قال له ممازحا:
_ و هل الذي ائتمنته على علبتك سيقتسم معك الإيرادات حين عودتك؟
ردّ هادي ضاحكا:
_ آه كلّا! لم يكن بيننا أيّ اتّفاق على هذا.
كان إبراهيم يتابع القصّة باهتمام فسأله مرّة أخرى:
_ و كيف قرّرت أن ترحل مع الحجّاج؟
_ لا أدري، أوّل أمس أمضينا أنا و أصحابي يوما ممتعا في حمل أمتعة الحجّاج من المحطّة إلى الفنادق. قلنا لولا البحر لكان بإمكاننا الذّهاب إلى "مكّـــة" مشيا على الأقدام لأنّنا لا نستطيع دفع ثمن الرّحلة، لكنّني تحدّيتهم و تراهنت معه، و لولا الجوع و العطش اللّذان دفعاني للخروج من مخبئي لما اكتشفوا أمري حتى وصولي إلى "جـــدّة".
ختم الإمام حديث الولد قائلا:
كان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يسرع في صلاته حتّى يخفّفها على الأمّ التي يبكي صغيرها ونحن أيضا سنعجّل في صلاتنا هذا المساء حتّى يرتاح هادي.
ختم الإمام حديث الولد قائلا:كان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يسرع في صلاته حتّى يخفّفها على الأمّ التي يبكي صغيرها ونحن أيضا سنعجّل في صلاتنا هذا المساء حتّى يرتاح هادي.
مع نهاية اليوم الثّالث انطلاقا من "تونس" أعلن البحّارة للحجّاج أنّه خلال هذا النّهار سيصلون إلى" قناة السّويس"؛ "قناة السّويس" التي يرى بعض الحجّاج أنّها كانت حجرة عثرة أمام استقلال "مصر" و حتّى "فلسطين".
و في اليوم التّالي و بعد صلاة الظّهر تمّ الإعلان عن ظهور اليابسة و حصل غليان كبير فوق المركب. أحسّ الحجّاج بأنّ الأرض خلف هذا السّتار الأزرق الذي التقت فيه زرقة السّماء مع زرقة البحر، و تعالت أصواتهم بالهتاف التّقليديّ "لبّيك اللّهمّ لبّيك".
عندما كان المركب عند مخرج القناة تراءى لناظر الحجيج ذاك المشهد الضّارب في القدم الذي يحيط ب"خليج السّويس" على اتّساعه و مذكّرا إياهم بالبطولات الدّينيّة. كانوا يشيرون إلى شكل بعيد باتّجاه الجنوب الشّرقيّ بدا و كأنّه جبل، إنّه "جبل الطّور" أو "جبل سيناء" أين تلقّى سيّدنا موسى ألواح الشّرع.
عندما كان المركب عند مخرج القناة تراءى لناظر الحجيج ذاك المشهد الضّارب في القدم الذي يحيط ب"خليج السّويس" على اتّساعه و مذكّرا إياهم بالبطولات الدّينيّة. كانوا يشيرون إلى شكل بعيد باتّجاه الجنوب الشّرقيّ بدا و كأنّه جبل، إنّه "جبل الطّور" أو "جبل سيناء" أين تلقّى سيّدنا موسى ألواح الشّرع.
_ يوجد هناك في أسفل الجبل الوادي المقدّس حيث رأى موسى النّار.
_ هناك ربّما حفرة فرعون؟
_ ...
كان هادي الذي تركه رئيسه يخرج ليأخذ قسطه من المتعة يتساءل هو الآخر:
_ لماذا لا يقترب المركب أكثر من حفرة فرعون لنرى إن كان فرعون لا يزال هناك؟
في اليوم التّالي، تحرّر هادي نهائيّا من الخدمة في المطبخ. أمضى وقته في اكتشاف أماكن المركب و زواياه. كان يلاحظ أنّ الرّكّاب كلّهم يقومون بالتّحضيرات نفسها، حينها فكّر بالالتحاق بمجموعته على السّطح؛ وجد إبراهيم قد تحوّل إلى حلّاق، كان يحلق رأس أحد أفراد المجموعة، و الإمام يشذّب شاربه، أمّا الآخرون فكانوا يقلّمون أظافرهم.
لمّا رأى الحلّاق هادي ناداه بلطف:
_ آه! هلّا أتيت لأجعل رأسك يشبه البصلة.
ظلّت خصل الشّعر تتساقط على كتفي هادي إلى أن سمعوا دويّ الصّفّارة الذي جعل هادي يقفز واقفا و هو يصيح و يصفّق بكلّ فرح:
_ عمّي إبراهيم، هذا صوت صفّارة "رابغ".
و بطريقة لا شعوريّة توجّه الإمام إلى رفاقه آمرا:
_ ماذا تنتظرون؟ يجب أن نذهب إلى الحمّام لكي نرتدي لباس الإحرام، فنحن داخلون إلى "الأراضي المقدّسة".
هادي: و أنا هل عليّ أن أفعل مثلكم؟ ليس لديّ ملابس الإحرام.
أجابه إبراهيم:
_ بالطّبع، يجب عليك أن تفعل الشّيء نفسه! أنت أيضا حاجّ حتّى إنّك قاسيت الأمرّين. أمّا فيما يخصّ لباس الإحرام فعندي كفاية لأقتطع لك منه جزءًا يكفي قامتك الصّغيرة، تعال.
عقّب الإمام مقترحا:
_ أنا أيضا أستطيع أن أقتطع من قماشي جزءا لتغطّي به كتفي الطّفل و سأترك لك القسم الأكبر من الفضل يا إبراهيم.
ردّ إبراهيم بنبرة مازحة:
_ أنا ممتنّ كثيرا لأنّي في الحقيقة محتاج إلى رَحَمات ربّي أكثر من احتياج هادي إلى قطعة قماش.
_ يا هادي تعال يا بنيّ حتّى أقيس عليك ما يكفيك من القماش.
ردّ إبراهيم بنبرة مازحة:_ أنا ممتنّ كثيرا لأنّي في الحقيقة محتاج إلى رَحَمات ربّي أكثر من احتياج هادي إلى قطعة قماش._ يا هادي تعال يا بنيّ حتّى أقيس عليك ما يكفيك من القماش.
عندما رجع مركب الحجّاج إلى "بونــة" جاء حاجّ من طرف إبراهيم يطرق باب العمّ محمّد. دعاه العمّ محمّد للغذاء في بيته فاستقبال حاجّ عائد لتوّه من "مكّة" بالنّسبة للعمّ محمّد و العمّة فاطمة يعدّ شرفا كبيرا. سُرّ العمّ محمّد لما سمعه من أخبار عن "الفحّام" و عندما فتحت العمّة فاطمة الطّرد قال الضّيف:
_ توجد سبحة لك و أخرى لزوجك و خاتم لزهرة.
ثمّ أضاف و هو يخرج من طيّات ثيابه محفظة مخاطبا العمّ محمّد:
_ أخبرني الحاجّ إبراهيم أنّك تعرف زهرة.
ثمّ سلّمه رسالة من إبراهيم أخرجها من المحفظة. أخذت العمّة فاطمة تقبّل المسبحتين و تمرّرهما على وجهها الذي بلّلته بالدّموع، و بدأ العمّ محمّد يقرأ رسالة إبراهيم لزوجته بصوت جليّ:
" الحمد لله وحده!
إلى عمّي العزيز محمّد التّقيّ، الوقور، الكريم، الشّيخ، العالم.
السّلام عليك و على أهلك. أنا سعيد بإخباركم أنّي قد وصلت إلى المدينة المنوّرة منذ أيّام بعد أن أدّيت مناسك الحجّ كما علّمتني عند مغادرتي بونة. أنا أحمد الله أن سهّل لي العودة إلى الطّريق المستقيم بعد أن سرت طويلا في طريق الزّلل و الخطايا. لعنة الله على إبليس!
أحسّ و كأنّي إنسان جديد و أرى من حولي عالما جديدا أريد العيش فيه إن شاء الله.
هناك مغربيّ يملك حمّاما سمح لي بأن أضع فرنا في زاوية كي أبيع القهوة لزبائنه. لقد بدأت في هذا العمل منذ يومين و أريد أن أخبرك عن مدى سعادتي خاصّة مع حجّاج الهند و جاوة الذين لا يرجعون إلى بلدهم إلّا بعد عودة حجيجنا. أريد أن أقول لك أيضا إنّ مهنة الفحّام ليست متداولة في هذه الأمصار لأنّ الجميع يستعملون إمّا البنزين و إمّا الكحول وقودا، هذا أفضل! فقد تركت الفحم مع الخمر في بونة، غير أنّي أفكّر فيكم و في أصدقاء والدي؛ لقد جعلت لكم حظّا من دعائي في مكّة كما في المدينة، لن أنساكم كلّما زرت قبر الرّسول الذي أقصده كلّ يوم مع طفل صغير من بونة كان قد ركب المركب خفية و قد قبل أن يصبح بمنزلة ابني، إنّه سعيد أيضا إذ ترك علبة مسح الأحذية كما تركت أنا محلّي...
لن أنس أبدا (زهرة) و صبرها الرّائع معي في محنتي، أتمنّى لها حجّة لأنّها تستحقّ ذلك، و إذا قبلت أن تلتحق بي في المدينة خلال الحجّ المقبل فأرجوك أن تسلّم لها بقيّة ثمن بيع البيت حتّى تتمكّن من تحمّل نفقات السّفر. أسأل الله أن يجمعنا بالسّعادة في هذه الدّنيا أو في الآخرة".
المدينة 25 ذو الحجة 1300
"الحاجّ إبراهيم الذي يدعو لكم"