الوليمة الأولى، الوليمة الأخيرة



سبالأمس تركتهم جالسين إلى طاولة العشاء في تلك الأمسية القمرية الدافئة في الغرفة التي لها نافذة كبيرة تفتح على الشرفة إلى اليسار و نافذة صغيرة عالية في الحائط الذي إلى الأمام يلوح منها القمر و النجوم.تركتهم يَلِمون و خرجت على العشب أتمشّى، إلى الناحية التي على ميمنة الدار و القمر صغيرا يربض أمام مقدمتها.الدار عبارة عن منزل مبني على الطريقة الأجنبية فسقفه مثلث و حوائطه خشبيّة و طلي باللون الأبيض. فها في تلك الليلة لونه أبيض ناصع بل لامع أيضا و نظيف بل إن أحال إلى شيئ كان ذلك الشيئ النظافة بدون نقاش، نظافة طاهرة ليس لها من نظير معروف في هذه الأرض الواطئة.كنت تركتهم يأكلون، يأكلون فخاذ الدجاج و الجبن الطازج و العسل و الفواكه الجافة و البقدونس و نحوه، على طاولة غطائها أبيض مخطط بالأحمر في شكل مربعات. يأكلون، كلّ واحد منهم و نسوا أمري و ما شعروا بإنسحابي.أنا إلى ناحية اليمين في المقابل أخطوا نحو غابتنا التي لا شيئ فيها سوى أشجار الصنوبر و الحنضل و بعض الزياتين و قليل من الخنازير البريّة. أخطوا نحوها و طبعا بدون نيّة للوصول لها و إنما للتجوال فحسب.حافي القدمين كنت عندها أتجوّل و تحت أقدامي تنسحق أوراق نبات الغسول المتنشر في قطعة الأرض تلك، أوراق مخضبة بالماء.تارة إلى السماء أنظر، واسعة و لكن إلى حدّ ما، و تارة إلى الأرض أنظر، غريبة و مجهولة و لكن أيضا إلى حدّ محدّد. و إلى الغابة أنظر، موحشة و مجهولة فلكأنّ جانا و شياطين تسكنها و كائنات أخرى من هذا القبيل و لا أؤمن بأيّ منها.كوكب الصّفري صار فجأة واضحا في السماء، أي ضهر بعد ان كان مختف طوال تلك الليلة، واضحا جدا و صغيرا ككجّة و تكاد ترى الذين يتحركون على سطحه في نقاط صغيرة جدّا تكوّن خطوطا خفيفة غير واضحة كجرّة كسولٍ من قلم رصاص غير مبرًّى.حين تجلس في شرفة المنزل أي التي إلى اليسار، ستكون جالسا تحت فانوس رمضانيّ نيره أصفر قويّ، و سترى أمامك أرضا واسعة ممتدة بلا حدود كأنها المحيط نفسه، أي كأنك تقف على سفينة وسط المحيط تنظر هذا المحيط و تتأمّل فلكأنه بلا نهاية و لكأنّ العالم الذي خلقه ربنا ما من شيئ فيه عداك و السفينة و السماء و ذلك المحيط. فمثل ذلك المحيط كمثل الأرض التي ستجلس قبالها إذا جلست تحت الفانوس العتيق في الشرفة و سيضيئ الفانوس البقعة من الأرض القريبة منه و من المنزل و القريبة من الدّرج.إنّ هذا الذي وصفت هو كلّ شيئ و ما من شيئ آخر عدى حوادث و تفاصيل لا قيمة كبيرة لها، رغم أن بعضها، خاصّة إن تجمّعت كان يثير فيّ الغضب و الحنق و الحسرة، و بعض الكوارث تكون كأعاصير و دوّامات هوائيّة في الأفق و عواصف في سماء مطريّة ملبّدة بالغيوم القاتمة، كانت تثير فيّ الحزن، حزنٌ حقيقيّ لا ينقصه إلاّ الدّموع التي تفرّ منها ثلاثٌ أحيانا و هو العدد الأقصى الذي أسمح لها به. و لا شيئ هو بالكثير عدى كلّ هذا عدى كون الأرض تراب رطب غنيّ بالمياه و خصب و النبات الأخضر و الشّجر هو جنّة لها.نصف دائرة هي السّماء، و نصف دائرة هي الأرض، و نصفٌ هي حياة الإنسان لا نِصف لها يكون لها كتوأم الرّوح فيكون مرحلتها الثانية و الأخيرة فيواصل خطوطها و يُكمل الدائرة.