في سنواتي الأولى في أحد المعابد، كنت أتردّد باستمرار على الطقوس الدينية اليومية، حيث كانت تُقرأ آيات من القرآن بعد كل صلاة. وفي إحدى المرات، وأثناء القراءة المعتادة بصوت هادئ ومنسّق، وصلنا إلى آية الشهادة في سورة البقرة. لفت صديق يجلس بجانبي انتباهي إلى أنّ هذه الآية تطرح سؤالاً حول موقع المرأة ودورها، فسألني بصدق: لماذا يبدو النص كأنه يُقلّل من شأن المرأة؟ في تلك اللحظة، لم أنطلق من البحث العلمي أو التحليل النقدي، بل من ذهنية قائمة على اليقينيات المطلقة والجزم الفكري. حاولت أن أقنعه بأن هذه الأمور لا يُمكن نقاشها، وأن النصوص الدينية لها أهداف وغايات أوسع من أن يدركها عقل الإنسان المحدود. وكرّرت عليه شعارات تربّيت عليها، تؤكد أنّ العلماء والمرجعيات الدينية يعلمون كل شيء وأنّ التشكيك يُعد تجاوزًا وخطرًا. لم أكن أعلم حينها أنّ هذا النهج الفكري لا يثبّت المعرفة، بل يقوّض قدرة الإنسان على النقد والتفكير المستقل. إن فكرة اليقينيات المطلقة، أي تبنّي مجموعة من المعتقدات على أنّها حقائق غير قابلة للنقاش، ليست مجرد مسألة شخصية بل ظاهرة اجتماعية وثقافية متجذّرة في المناهج التعليمية التقليدية وأساليب التلقين الاجتماعية. فهي تؤدي إلى تجمّد أدوات الفحص النقدي والشك المنهجي، وتحويل العلاقة بين المتعلّم والمرجعية من علاقة تحقيق وفهم إلى علاقة تبعية وتماثل. وفي هذا السياق، يشير الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في مقاله الشهير "Ur-Fascism" إلى أنّ أحد عناصر الفاشية الأيديولوجية هو رفض العقلانية وتجريم السؤال، وهو ما يمكن ملاحظته أيضًا في بعض البيئات الفكرية المغلقة حيث تُقدَّم الأفكار وكأنها حقائق مطلقة لا يجوز الطعن فيها. كما يقدّم طه حسين في مذكّراته *الأيام* صورة حية عن أجواء التعليم التقليدي في الأزهر في بدايات القرن العشرين، حيث كانت أساليب الأساتذة والشيوخ القمعية تهدف إلى تحجيم ملكة السؤال لدى الطلاب، وتحويلهم إلى حافظين مقلّدين بدلاً من باحثين مفكّرين. لم يكن الهدف فقط تثبيت المعلومات، بل ضمان استمرارية نظام فكري لا يرحّب بالنقد ولا يسمح بمساءلة المسلّمات. هذه الأمثلة التاريخية تعكس كيف تُنتَج ذهنيات تقليدية مغلقة مقاومة للتجديد، وهو أمر له أثر مباشر على التطور الفكري والاجتماعي لأي مجتمع. ومن المفارقات اللافتة أنّ التحفّظ على وضع «قدسية» لدى النصوص، الذي قد يُبنى بدافع الاحترام أو التقدير، غالبًا ما يتحول إلى حاجز أمام النقد العقلاني. فالمجتمع الذي يقدّم قداسة غير قابلة للمساءلة يضعف قدرة أفراده على تطوير أدواتهم النقدية، بينما يروج في الوقت نفسه لفكرة أنّ المعرفة المطلقة ملك لسلطة بشرية، سواء كانت علماء، شيوخًا، أو مؤسسات تعليمية. وهذا التناقض يؤدي إلى ضعف الفكر الجمعي وتثبيت الذهنية التقليدية، كما يشير إيكو في تحليلاته حول خصائص الأيديولوجيات المغلقة. على العكس، تؤكد المناهج النقدية الحديثة أنّ أي فكرة مهما كانت راسخة يجب أن تُعرض على اختبار مستمر، وأن تُخضع لمعايير البحث والتحليل قبل قبولها. لا توجد معصومية معرفية، بل هناك اختبار دائم لمدى صلابة الأفكار وملاءمتها للزمان والمكان. كما يؤكد باولو فريري في كتابه *Pedagogy of the Oppressed* أنّ التعليم يجب أن يُحوّل المتعلّم من كائن مستهلك للمعلومات إلى فاعل قادر على تحليل الواقع، وطرح الأسئلة، والمشاركة في بناء المعرفة بدلاً من قبولها تلقائيًا. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء ثقافة السؤال لا تعني محو الاحترام أو تقويض المرجعية الدينية، بل تعني فتح فضاءات آمنة للنقاش، وتعليم أدوات التفكير النقدي، وتشجيع البحث العلمي داخل حدود القيم الاجتماعية والدينية. إن تعزيز القدرة على السؤال لا يقلل من قيمة المرجعيات، بل يقوي المجتمع ويُعطي الأفراد القدرة على الفهم العميق والمراجعة المستمرة. وفي هذا الإطار، يصبح الشباب المورد الأساسي لأي نهضة فكرية، والمسؤولية تقع على المثقفين والمعلمين والمؤسسات التعليمية لتهيئة بيئة حاضنة للنقد البنّاء، بدل أن تتحوّل المسلمات إلى قيود تمنع النمو المعرفي. وفي الختام، فإن تحقيق التوازن بين الانتماء للتراث والقدرة على النقد المستقل هو الطريق لإعادة إنتاج مجتمع قادر على التقدّم الفكري والاجتماعي، مجتمع يقدّر المعرفة والبحث ولا يخاف السؤال، مجتمع يرى في النقد أداة لإثراء الفهم وليس تهديدًا للقدسية.