ثورة الحب: قراءة في أغنية زياد الرحباني "بلا ولا شي، بحبك"




تجرد الحب في عصرنا من قدسيته الأولى، تلك التي كانت تقوم على المشاعر الصافية والعواطف الحميمة التي يتبادلها الناس، ليغدو مشروطًا بالمصلحة ومقيدًا بالمنفعة.


أضحى الحبّ اليوم مرهونًا بما يملك الإنسان من مالٍ ومكانةٍ وجاه، لم يعد الحب في هذا الزمن يُقاس بما في القلب بل بما في الجيب.

فابتعد عن جوهره النقي حتى بات يشبه سلعة تستهلك كأيّ شيءٍ آخر في الأسواق.

لقد تحوّل من تجربة روحية عميقة تنتمي إلى القلب — بوصفه مركز الوجدان الإنساني — إلى معادلة نفعية تحكمها الظروف وحسابات الامتلاك.


وهكذا غدت العلاقات الحميمية الحديثة في أغلبها هشّة وسريعة الانكسار، لأنها تقوم على سطحٍ بلا عمق، وتخلو من ذلك الامتزاج الذي يجعل الروحين تتشابكان وتنغمس كل منهما في الأخرى.


كان زياد الرحباني، بعبقريّته المعهودة، أحد أوائل من شخصوا هذه الآفة التي نخرت بنية المجتمع في العقود الأخيرة.

فجعل من الفن وسيلة لمقاومة الابتذال العاطفي، وسبيلاً لاستعادة المعنى الأصيل للحبّ:

أن يُعاش كتجربة وجودية تمنح الإنسان وعيًا بنفسه، ومعنى لوجوده.


في أغنيته الشهيرة "بلا ولا شي، بحبّك"

يقدم زياد إعلانًا صادقًا عن ثورة داخلية ضدّ الحبّ المشروط.

إن عبارته المختزلة “بلا ولا شي”

تختصر جوهر التجربة الوجدانية الخالصة: أن يحب الإنسان لمجرد الحب، لا لسبب أو مقابل، لأن الحب الذي تقيده الأسباب يكون هشًّا، ضعيفًا، فارغًا من جوهره، ومعرضًا للانهيار مع تغيّر الزمن والظروف.

ولعل في ذلك مقاومة من نوع آخر: مقاومة للزمن التجاري الذي جعل المشاعر تُقاس بما يُدفع، لا بما يُحسّ.


ما يجعل الحبّ راسخًا وثابتًا هو أن يكون غايته ذاته،أن يُحبّ الإنسان "بلا ولا شي"، لأنّ الحبّ الصافي لا يحتاج إلى مبرر يبرهن وجوده، ولا إلى حجة تبرر حضوره فهو برهان نفسه وسببه في آنٍ واحد.
وفي مقاطع الأغنية، يظهر هذا النزوع العميق نحو تجريد الحبّ من كل غاية مادية، إذ يقول زياد:

"ولا في بهالحبّ مصاري

ولا ممكن في ليرات

ولا ممكن في أراضي

ولا في مجوهرات"

ثمّ يختتم رؤيته بنداء حميمي يعيد الحبّ إلى فضائه الإنساني الأول:

 "تعي نقعد بالفي مش لحدا هالفي. حبيني وفكّري شوي."
هنا يتحوّل المعنى الغنائي إلى معنى وجودي خالص حيث يصبح الحب فعلًا حرًّا قائمًا بذاته، يكفي أن يكون:

"بلا ولا شي."


في رؤيتي، ما يفعله زياد ليس مجرد تمرد فني بل هو استعادة للجوهر الإنساني للحب — ذلك الجوهر الذي يسبق اللغة والشرط والمنفعة.


فالحبّ كما أراه ليس وعدًا ولا مصلحةً ولا عقدًا ضمنيًّا بين طرفين، بل هو انكشاف للذات في لحظتها الأكثر صفاء واكتشاف للآخر في صفائه. يتبادل العاشقان الأرواح، فيغدو كل منهما مرآة تعكس للآخر ملامح روحه.


وحين يصل الإنسان إلى تلك الدرجة من الصفاء، لا يعود بحاجة إلى أن يقول لماذا يحبّ، بل يكفي أن يكون في حالة حبّ عارية من كلّ قيد أو تبرير.


وهذا ما يجعل أغنية "بلا ولا شي"

أكثر من عمل موسيقي، إنها بيان صغير ضد ابتذال المشاعر، وثورة روحية على زمن صار فيه الحب يُباع بالمادة، بينما يظل في جوهره أنقى من أن يُقاس بشيء.


كما قال أفلاطون ذات يوم: “الحبّ يرفع الإنسان من حالة العدم والانغماس في المادة إلى عالم المعنى والجمال الحقيقي.”


ولعلّ زياد، بصوته الهادئ وصدقه العظيم يذكّرنا بأن أجمل ما في الحبّ أنه ببساطة 

"بلا ولا شي"