يُعدّ عباس كيارستمي (1940-2016) واحدًا من أبرز مجدّدي السينما الإيرانية والعالمية، حيث تجاوز في أعماله حدود الحكاية التقليدية ليحوّل الفيلم إلى فضاء للتأمل الفلسفي والتفاعل الاجتماعي العميق. لم يكن كيارستمي مجرد مخرج يحكي القصص، بل صانع رؤية، ومهندس أسئلة مفتوحة، تجعل المتفرج شريكًا ليس في إيجاد المعنى فقط بل في بناءه أيضًا. لقد اشتغل على تفكيك بنية الفيلم الكلاسيكي، وبناء بديل سينمائي يقوم على التأمل، الصمت، واللايقين. استوحى كيارستمي أفلامه من الحياة اليومية للإنسان الإيراني البسيط، متعمقاً في قضايا الوجود، الهوية، والحقيقة، ما جعله يكسب شهرة عالمية خاصة في إطار "الموجة الإيرانية الجديدة" والتي ظهرت بعد الثورة الإيرانية عام 1979. وهو الّذي قال عنه المخرج الفرنسي "جان لوك جودار": «بدأت السينما بجريفيث وانتهت بعباس كيارستمي».
سينِما تتجاوزُ السّرد نحو التأمُّل الفلسفيّ.
كان للبعد الفلسفي في أفلام كيارستمي مكانة مركزية إذ تناول قضايا مثل معنى الحياة، الوجود الإنساني، والأخلاق من خلال تجارب شخصية وتأملات روحيّة. وتميّز أسلوبه باعتماده على الحوار البسيط والعاديّ بين الشخصيات لطرح أسئلة وجودية عميقة، مثل الانتحار والبحث عن الهوية والذات ومعنى الحياة، كما يحضُر ذلك في فيلم "طعم الكرز (1997)" الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان". حيث لا يقدم لنا كيارستمي حكاية مأساوية لرجل يريد الانتحار بقدر ما يقترحُ علينا رحلة داخل سؤال الوجود. إنه فيلم عن الفكرة قبل أن يكون عن الحدث. الكاميرا ترافق الشخصية في سيارة تجُوبُ ضواحي طهران، بحثًا عن شخص يساعده بعد موته، لكننا لا نصل أبدًا إلى إجابة نهائية. هنا تصبح السينما وسيلة لطرح سؤال الحياة دون ادّعاء امتلاك الإجابة. كما اعتمد على فلسفة العرفان والصوفيّة حيث يعكسُ تأثّره بالثقافة الشرقيّة الّتي تقدّسُ الصّمت والتأمُّل والفَراغ. استطاع بأفلامه أن يُلامس الإنسَان في أي مكان في العالم، لأنه لا ينطلق من ثقافة مُغلقة، بل من أسئلة إنسانية مفتوحة: من نحن؟ كيف نحيا؟ كيف نواجه الموت؟ كيف نبني معنى لحياتنا؟ لقد حوّل كيارستمي الشّاشة إلى مرآة وجُودية، لا تعكسُ فقط صورة الإنسان، بل قلقه، هشاشته، وجمالهُ العميق. سينماهُ لا تنتهي بانطفاء الشّاشة، بل تبدأ بعدها.
سينِما تحتَفي بالعاديّة في تصويرهَا للحياة الاجتمَاعية.
تمثل تجربة كيارستمي حالة فريدة من الاهتمام بالإنسان العادي وبالأبعاد الاجتماعية لحياته، حيث سلّط الضوء على الطّابع الريفي الإيراني وأسلوب حياة البسطاء. على خلاف التقنيات السينمائية المعقدة، فنهجُ كيارستمي بسيط وقريب من الحياة الطبيعية. استطاع التّعبير عن القضايا الاجتماعية من خلال رؤية تتّسم بالهدوء والرحمة في التعامل مع مواضيع مثل الطفولة، الفقر، والصراعات الداخليّة للأفراد. كما ركز على الحوار بين الأجيال والطبقات الاجتماعية المُختلفَة، مبرزاً التوتُّرات الاجتماعية والنفسية بحسّ إنساني عميق. ورُغم أنّ أفلامهُ لم تكُن تتضمّن خطابًا سياسيًّا مُباشرًا إلاُ أنها مليئة بالدّلالات الاجتماعيّة، لقد قدّم لنا المجتمع الإيراني لا من خلال الشّعارات السياسيّة، بل عبر التفاصيل اليومية للمواطن الإيراني: الطرق الترابية، القُرى، الحوارات العابرة، البيوت البسيطة، العلاقات الصغيرة بين النّاس. هذه العاديّة في تصويره للحيَاة، إن صحّ التعبير، هي ما جعلتهُ يخترقُ المجتمع ويُوصل همُومه وآماله سواء الاجتمَاعية أو السياسيّة لكلّ العَالم. في ثلاثية كُوكَر (أين منزل الصديق؟ – والحياة مستمرة – عبر أشجار الزيتون) على سبيل المثال، لا يروي فقط مأساة الزّلزال الّذي ضرب شمال إيران عام 1990، بل يُظهر قدرة الإنسان على الاستمرار، إعادة البناء، والبحث عن المعنى وسط الخَراب. هنا تتجلى رؤية اجتماعية عميقة: المُجتمع ليس مُجرّد ضحيّة، بل فاعلٌ يُعيد تشكيل ذاته أمام الكارثة.
زعزعة الحدود بين الوثائقي والروائي.
عمِل عباس كيارستمي على زعزعة الحُدود التّقليدية بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي، حيث لا يتعاملُ معهما كجنسَين مُنفصلين بل كحَقلين مُتداخلين يَطرحُ من خلالِهمَا سؤال الحَقيقة والتّمثيل. حيث لم يسعَى لتقديم واقع نقيّ كما في الوثائقيّات الكلاسيكيّة، ولا إلى بناء عالم تخييليٍّ مُغلق كما في السّينما الرِّوائية، بل خَلق منطقة رماديّة يختلطُ فيها الواقعيُّ بالمُصطَنع، والحقيقيُّ بالمُعاد تَمثيلُه. ويتجلى هذا بوضوح في أحد أعظَم أفلامِه "لقطة مقرّبة" (1990)، حيثُ جعل شخصياتٍ حقيقيّة تُعيد تمثيل قِصّتها أمام الكامِيرا، ممّا يجعل المُشاهِد عاجزًا عن التّمييز بين ما هُو حدثٌ فعليّ وما هو إعادةُ بناءٍ سينمائي، ليدفعه بذلك إلى التساؤل: أين تبدأ الحقيقةُ وأين ينتهي التّمثيل؟. وهكذا تتحوّل أفلام كيارستمي إلى مُختبر بصريّ يتأمَّل طبيعة السّينما ذاتها، ويجعل من التّداخل بين الوثائقي والروائي وسيلة فلسفيّة للتّشكيك في مفهوم الحَقيقة، لا مُجرّد حيلة أسلُوبيّة.
الطُّفولة كمرآة للمُجتمَع.
احتلّت شخصية الطّفل مكانة مركزيّة في أعمَال كيارستمي، خاصة في فيلمه "أين منزل الصديق؟" (1987)، حيث يقدّم نموذجًا بسيطًا لطفل يريد إعادة دفتر زميله حتى لا يُعاقبهُ المُعلّم في المدرسة. لكن هذه الرحلة الطفولية تتحوّل إلى تجربة أخلاقية عميقة حول المسؤُولية، التّضامن، والانضباط الاجتماعي. الطفل عند كيارستمي ليس عُنصرًا بريئًا فقط، بل كائنٌ يختزلُ تناقضات المُجتمع بل ويُعيد انتَاجها، وفاعلٌ أخلاقيٌّ واعٍ يتّخذ قرارًا ضد منطق الرّاشدين الجامد والقاسي. لا يُنظر للطّفل في أعمال كيارستمي ككائن مُنعزل عن سياق المُجتمع الإيراني، ل ككائن يقع في قلب شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية. أشياء كالحُقول، الطُّرق، المدرسة والبيت كُلُّها فضاءاتٌ تُساهم في بناء شخصيَة الطّفل وتكشفُ عن طبيعة المُجتمع الذي ينتمي إليه في نفس الوقت. الطّفل هنا يُشبه العدسة التي نَرى من خلالها كيف يُعاد إنتاجُ القيم الاجتماعية: الطاعة، السلطة الأبوية، الخضوع، أو أحيانًا التمرد الصّامت. لكن كيارستمي لا يُظهر الطّفل كثَائِر، بل ككائن يُمارس مُقاومَة هادئة، أخلاقية يوميّة، لا ترفع صَوتها لكنّها تتركُ أثرًا عميقًا. كما أنّ تجربَة الطّفل للزّمن في أفلام كيارستمي مُختلفة عن تجربَة الرّاشدين، فبينَما ينشغلُ هؤلاء بضغوط الوقت والمسؤُوليات الحيَاتيّة يعيشُ الطفل في زمن التجربة، الاكتشاف والتساؤُل. وهذا ما يجعل أفلام كيارستمي أكثر بُطئًا عندما يتعلّق الأمر بشخصيَة طِفل، حيث هذا الأخيرُ يُعيد تشكيل الزّمن وفق إدراكه.
السّينِما كأنّها قَصيدَة.
«ينبغي للفن السابع أن يكون أكثر اكتمالًا بما أنه يضم بداخله الفنون كلها، لكنه أصبح مجرد وسيط لرواية القصص بدلًا من أن يكون الفن الذي ينبغي أن يكونه حقًا. أشعر أن السينما الشعرية هي التي سوف تدوم لزمن أطول، لا السينما التي تروي قصصًا فحسب».
في تجربة عباس كيارستمي تُصبح السّينما فعلًا شعريًّا قبل أن تكون مُمارسة سرديّة، كأنّها قصيدةٌ تُكتب بالكامِيرا بدل الكلمات، حيث لا تُبنى المعاني عبر تصاعُد الأحداث بقدر ما تتَشكّل من الإيقاع الداخليّ للصُّورة، ومن المسافات التي تفصلُ بين اللّقطة والأخرى، ومنَ الصّمت الّذي يملأُ الفراغ. فكما تُراهن القصيدةُ على الإيحَاء والرّمز لا على الشّرح، وعلى الكثَافة لا على الامتداد، تُراهن سينما كيارستمي على المَشهَد المُختزل، والنّظرة المُؤجّلة، والطّريق المُمتدّ كاستعارة للوجُود، لتجعَل من كلّ لقطة بيتًا شعريًا مفتوحًا على تأويلاتٍ مُتعدّدة. إنّ أفلامهُ لا تُشاهدُ كما تُشاهد الأفلام التّقليديّة، بل تُقرأُ كما تُقرأ القصائد: ببطءٍ، بانتباهٍ، وبقدر من الصّمت الداخليّ، لأنّ معناها لا يُعطى مباشرةً بل يُتكشفُ تدريجيًا عبر الإحساس. فتتحول الشّاشة في حضوره إلى صفحة بيضاءَ تُكتب فيها أسئلة الإنسان عن الحياة، الزّمن، والهَشاشة، بلغةٍ بصريّة هادئة، دقيقة وعميقة، حيث تصبح السّينما حقًّا قصيدةً مُمتدّة لا تنتهي بانطفاء الضّوء، بل تبدأ منه.