الحب وحده لا يكفي!

صورة

بينما كنت مارٍ في زقاق حارتنا الصغيرة، وجدت تلك الفتاة التي كانت تداعب وجه طفل صغير يبكي بحرارة في الطريق المقابل للمقهى الذي ارتاده من الحين للآخر.. ظللت بضع دقائق أراقب دلالها الخفيف مع ذاك الطفل.. هي لم تكن تلك الفتاه التي تترك (طفل شوارع) على حاله في منتصف طريق و ترحل، بل اتكأت لتوها و جثت على ركبتيها امامه و وضعت كلتا يديها على وجهه المليء بالغبار بل وكانت تداعب برقة انفه ليبتسم، ثم امسكت يده و اربطت عليه و قالت له لا تخف و وجلت داخل كشك صغير و قالت له: "اختر ما تشاء!" ثم عادت معه و هو يجذب أكياس من (الحاجات الحلوه) و تعلوه ابتسامة جريح قد اراحه التخدير..


كانت تحبني بصدق، و كنت احبها لتلك الدرجة التي قلت لها فيها ابتعدي عني. ان تقول الصدق هو اسمج شيء، انا لست مناسبًا لربما هلكت معي و مع مستوى المعيشة المزري الذي نبش في حياتي، الحب هو أن تبتعد ألا تجعل احدهم يعاني ما عانيته انت، ألا تخلق من نسلك آخر، لابد أن تدفن هذه الزيجة الفقيرة العفنه من سلالتك للابد.. لابد أن يحيا من يستطيع اما الباقي فله أن يؤئد نفسه في التراب و لا اجنّة يعاد تدويرها من زيجاته.

لذلك ابعدت عنها. الصورة من بعيد افضل.. 

صديقي اخبرني انني شاب و في ريعان الصبا و لكني اشعر أنني عجوز، جسد خالي، عاجز عن اصلاح تالف او تقديم جديد، وروح عَطِبة يجتاحها اللامبالاة و اللا شيء، عظام نخرة و نوم ثقيل، و لا استطيع الحراك و لا اجسر على أن القي كلمتين او اكثر بدون ان اتلعثم.

فقط لا استطيع. لقد انتهيت منذ زمن..


امام القهوة، طالعتُ كرسي خالٍ و منضدة مريحة بعيدًا عن الانظار و الإضاءة فوقها خالية، و جلست على الطاولة ذاتها التي لاطالما شكيت لها و شكت مني، طلبت كعادتي قهوة مرّة المذاق، و إذ بي جالس اتساءل ماذا كنت سأكون لو اخترت طريقًا آخر غير ذلك الذي اخترته، هل كنت سأصبح طبيبًا او كنت قد عملت في الخارج مهندسًا؟! هل من الممكن أن أكون آنذاك صاحب عقار ضخم في وسط المدينة و عندي اجتماع لاصحاب الشركات التابعة لي؟!.. و بينما كنت احدث نفسي هكذا اذ فجأة قفزت فتاة من امامي كانت عيناها ممتلئة بالقلق و التوتر يجتاح روحها.. هي ذاتها الفتاة التي رأيتها تداعب الطفل.. كانت فتاه بارعة الجمال حسناء قد كحلت عينها برقة و سكينة و قد تدلى على رأسها بضع خصيلات من شعرها قد اضفى جمالًا على وجنتيها و قد اكل منها التوتر بعض اللطافة الذي تجبرك أن تهدئ من روعها..

قالت لي: "ممكن تساعدني؟!" 

قلت لها: "بالطبع!"

اخذتني عند محل يكتظ بشباب كثيرة و قالت لا استطيع أن ادخل لو تبتاع لي قطعة كيك، نفذت الى المكان حيث اشارت لي و ابتعت لها ثم قالت لي هيا بسرعه نذهب من هنا، لم افهم و ابتسمتُ لها كأنها كانت طفلة صغيرة.. قالت لي بسرعة خافته.. 

"امممم هيا بنا نركض سأخبرك فيما بعد!"..

                                * * * 

قلت لها بلهجة غريبة، يا عزيزتي ليس عندي اي طلبات في البنت غير ان تُنسيني البنت التي قبلها، قلت لها و عيناي تدمع من اسفل مقلتيّ: فقط هل يمكن إن وقعت يومًا أن تجذبي يدي؟!، لا اريد شيئًا آخر غير ذلك سأنهار من جديد. 

قالت له و هي تبكي بدورها اريدك أن تصمت أن تبتعد ان تعتلي الجبال في آخر البلاد و أن تكون بخير بعيدًا عن عيني. 

قلت لها و انا احدق بعينيها الواسعتين كأنني أعانق آخر لحظات الوداع معها، و اطرقتُ قائلًا: الحب هو إن تطلب الامر الى أن اصمت للابد.. سأصمت حتى يبلغ الصمت منتهاه.. 


كان عابر سبيل ذاق العشق مره و لم يتذوق طعم آخر قطعة شهية منه.. عابر سبيل لم يدم طويلًا و لكن ترك السبيل اثرًا في ذاكرته و ندبة بالروح لا تدمل.

راح يترنح رائد من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، لم يعي و لم يدرك المعاناة التي أجبرته يد الأقدار أن يعيشها رغم انفه.. اللحظات التي لا تنسى، و النهايات غير المكتملة، و الطرق التي سُدت. 

و هو يتأمل سقف الغرفة المظلم، الذي اضاءه المصباح الخافت الذي اندلع من فتحة مواربة من باب الحمام، شرد رائد و هو يطرح على نفسه سؤالًا هل كل شيء في الحياة ينتهي نهاية واضحة ام أن عدم كمال الاشياء قُدّر لها؟! هل هي جزء من الرحلة؟!.

في حيرة و ألم و حسرة جلس رائد في فضاء شاسع مع النفس، يبحث عن اجابات، الاختيارات كانت لعنة تربكه.. بدون ادنى شك لم يجد نقطة النهاية التي هذى ليصل إليها. 

رائد و لينا.. لم تصل الامور لما كانا يتوقعان، بعد خلافات متكرره و خيبات أمل متتالية و سوء فهم هنا تاره، و عدم وضوح هناك تاره اخرى.. جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن، ربما تغيرت الظروف التي جمعت بين قلبيهما، لم تسر الامور كما كانا يتوقعان. لماذا عَلِق ذاك الحب الذي لم يمضي عليه  الا بضع أشهر و لم تكن عقودًا و أدهر؟! لماذا نتعلم في أنصاف الطرق أكثر مما نتعلمه في نهاية المطاف؟! 


يقال ان الحب الذي لا يكتمل قد يكون نازفًا طيلة الحياة، يبقى معك حتى تضمحل خلاياك العصبية و حتى تعتريك الامراض المزمنة و حتى يزورك ملك الموت ليقبض روحك ناقصةً و جروحك ما زالت مفتوحة و ندوبك لم تلتئم بعد. 


في اليوم التالي وجد رائد لينا و هي ترتدي منامة حمراء، قد تحرك جسدها الى تلك البقعة امام مرآة الحمام، لتضع العوينات، وضعتها على مهلٍ و كأنها تسير على قشر بيض، عندها قام صاحبنا المبجل رائد ليغتلس نظرة على روب لينا القصير..

المشهد ناقص لأن لينا لم تعطي رائد الضوء الأخضر له بأن يلمسها او يداعب وجهها من جديد على الاقل، الآن آخر شيء تريده أن يلمسها بالطبع لن يكون رائد. 

ركضنا الى آخر الطريق ثم لاح نظري في الافق الى رفيق الدرب الذي سرق حب الفتاة (لينا) في الصباح.. هي بالاخير تستأهل أن نملأ الارض حبًا لأجلها.. انه نفس ذات الولد.. اقبل عليها ثم اخذته بالحضن كأنها تحتضن طفلها الرضيع و قد اتت له بكعك لذيذ تلتهمه الاعين قبل الافواه.. 

تسمرتُ في مكاني و انا اقول لقد طلبت مني المساعدة و انا الآن اريد أن اقترب أن اغرم بيعينيها الواسعتين البريئة أن احتضن آخر حزن اراه في مقلتيها، أن اشاركها الليل و النهار المر و الحلو المرض قبل الفرح التعاسة قبل السرور.. أن نتلاحم حتى نتلاشى في بعضنا البعض.. أن يعج بيتنا بالحب.. 


 كنت ادعو الله اناء الليل و اطراف النهار أن يشفي قلبي التعس، احيانا الليل ينشب فيك آثار الهزيم التي لاطالما ركضت هربًا منها، لكن الارق اللعين اعتلى المنكب و امتطى لتوه رأسك المتدلية، لقد احاطت بك سهام الحزن فلا مهرب منها الآن..

اشعلت لفافة تبغ و شارفت على الانتهاء لكن عقب السيجارة الدنيئة قد وقع حينها على طرف القميص دعك من انه هرئ لقد حاكته المصائب منذ زمن و لكنه شهد معي لحظات دامية، لقد احترق القميص و هرعت حتى لا يحترق جسدي.. 


مرت الايام و حبينا و حكينا و حلمنا و بنينا.. 

ثم التقينا في صباح يوم ما، لم ادرِ لما ذاك اليوم قد كتبت الاقدار أنه لا مفر من كتابة ما سيحدث الآن.. 

قالت لي كلمات على غرار إن شاء الله خير، و أن الامور لن تنتهي على خير إذ أنك من عالم و انا عالم آخر و لكن يوافق والداي على امر هكذا.. 

جاءني شعور كما لو أن احدهم اخرج خنجرًا و اغمده في صدري، كأن هناك أحد وضع حجرًا يزن اطنان على روحي، حبستُ انفاسي بضيق و حزن و شهقت بفزعٍ كأن الدنيا تدور من حولي.. دوار مفاجئ، و قلب ينبض بسرعة شديدة، و رأس متعب، و جرح لا نزيف له.. 

نظرت لي و قالت لي هيا بنا الى المطار، لم انفث ببنت كلمة و لا هي و نحن في السيارة، الطريق كان طويلًا لكن زمن الوصول كان بضع دقائق..

وصلنا و على نافذة شرفة الضابط التي اطللنا منها اخذ جواز سفرها، ثم توجهت الى الممر الى خارج المطار للجانب الاخر، و انا عيني لم تعد تستقر في مكانها.. استقرت عندها و عليها، انهالت في البكاء من بعيد و انا اراقبها، عمري قد يُحتسب في اللحظات هذة.. 

وقفت على باب الخروج و نظرت لي طويلًا ثم بدأت تتحرك كما لو كانت تعود و انا بدوري بدأت التحرك تجاهها، ثم مشت فمشيتُ، ثم هرولت و اسرعت في الركض و انا الآخر حتى أمسكت بيدي.. 

قالت لي و هي تتنفس بصعوبة: 

  • "انا آسفة لابد أن اودعك، حاولت أن اودعك بعيني و لكن لا اقدر أن اقف بدون حراك!". 

قلت لها و انا بدون حيلك و عيناي يدمع: 

  • "هيا بنا نهرب هيا بنا نتلاشى من بين العيون، تعالي اخبئكِ بين الضلوع..."

ناداها الضابط و ميسّر الرحلة اعلن أنه حان موعد ركوب الطائرة و أن الباب سيغلق.. قاطعت كلامي ثم نظرت الى عيني و هي تبكي قائلةً:

"رائد، الحب وحده لا يكفي!".
— - لينا

مرت ايام طويلة لم تمر عليّ انا.. لكن مرت خلالي، فقط مرت ايام و عدت الى ذات القهوة نفسها و نفس ذات الكرسي، ثم اشعلت لفافة التبغ التي اعتدتها و قلت لنفسي ماذا كنت سأكون لو اخترت طريقًا آخر غير ذلك الذي اخترته!.