الإنسان والكليات مأساة إغراق الجزئيات في شموليات الوعي

صورة

تمهيد إشكالي : الكلي والجزئي كمنفى 

منذ أن بدأ الإنسان في التفكير ، كان يميل إلى اختزال الوجود في كليات ومفاهيم عامة تسكنه الطمأنينة وتمنحه وهم السيطرة على الفوضى 

غير أن هذا الميل، في عمقه، ليس بريئا؛ إنه يختبئ نزعة إلى طمس الجزئيات التي تشكل نسيج التجربة الحية . فالإنسان إذ يسعى إلى الفهم ، يُضحي بالتفصيل في سبيل الكلية ، ويحوّل الحدث إلى اسم جامد ، واللحظة إلى عنوان عابر 

وهكذا ، يغدو الكلي أداة للفكر ، لكنه في الوقت نفسه مأزقا للوجود. فمن خلاله، يفقد الإنسان صلته بما هو فريد،متغير، طري في التجربة اليومية 

ومن هنا ينبثق السؤال التالي هل يسعى الإنسان إلى الكلي لأنه يهرب من فوضى الجزئي ، أم لأن الكلي هو ما يمنحه شعوراً زائفاً بالمعنى والنظام داخل عالم متحول لا يمكن القبض عليه ؟ 

أولا : التعميم كبنية ذهنية تسكن الوعي 

الخطأ الذي يقع فيه عامة الناس كما في الفلاسفة الذين نبهوا إلى ذلك هو أنهم يعممون تجاربهم الخاصة ويحوّلونها إلى قوانين عامة 

فالنجاح في تجربة ما ، أو تحقيق غاية فردية ، يُغري بتحويلها إلى قانون للحياة ، وكأن ما صدق على الذات يجب أن يصدق على الكلّ لكن هذا التعميم ليس إلا انزلاقا من الجزئي الى الكلي ، ومن المحدود المطلق 

يقول كانط : " إن العقل البشري يميل بطبيعه إلى البحث عن الضرورة في ما هو عرضي"

وهذا الميل هو أصل المفارقة : فالإنسان حين يسعى إلى فهم العالم ، يفرض عليه أشكالا كلية تُبسط الواقع وتخفي تعقيده. وهكذا يغدو التعميم راحة عقلية واغترابا معرفيا في آن واحد 

ثانيا الحياة اليومية كاختزال الوجود 

لنأخد مثالا بسيطا لكنه دال على المعنى 

مع طلوع الصباح خرجت الى المدرسة ، ثم عدت عند الظهيرة فتناولت الغداء. بعد ذلك شرعت في ممارسة بعض الأعمال المنزلية ، وغادرت المنزل مجددا لأتجه نحو المكتبة حيث قضيت بعض الوقت حتى حلول السادسة مساء. ثم توجهت إلى مركز الدعم حيث مكثت حتى الساعة العاشرة ليلا. وعند عودتي إلى البيت تناولت العشاء ، ثم أسلمت نفسي لراحة النوم . بهذا السرد ، يبدو الإنسان كمن يعيش على سطح تجربته إنه يقدم عنواين يومه لا تفاصيله : لا يصف الطريق، ولا الطقس ، ولا ما شعر به ولا الاصوات او الروائح او لحظات التردد والفرح والتعب لقد حذف كل ما هو حي، واحتفظ بما هو صوري . إنه يعيش جدولا زمنيا لا يوما فعليا ؛ يعيش العنوان بدل الحدث ، وكأن الحياة تُختصر في جمل تقال لا في تجارب تعاش وهكذا يغدو الإنسان ، في زمن السرعة والتقارير اليومية ، كأننا يسكن الكلي الميت بدل الجزئي الحي 

ثالثا : الكلية كراحة ذهنية ومأزق وجودي

لا شك أن الكليات ضرورة معرفية ، فهي التي تمنح الفكر ادواته في التنظيم والفهم غير أن ماهو نافع للعقل قد يكون قاتلا للحياة . فحين يقول الشخص أعددت وجبة ، لا يروي تلك الوجبة في حقيقتها الزيت ، النار الخضروات ، الفعل اليدوي ، الانتظار ، الرائحة ، الزمن بل يروي الإسم فقط الاسم يختزل التجربة ، واللغة تحوّل الحي الى مجرد مفهوم 

يقول موريس ميرلو بونتي 

"الفكر الذي يريد القبض على الحقيقة الكلية ، ينتهي دائما الى محو ما هز فريد ومباشر في التجربة "

وهكذا ، فإن الإنسان ، في سعيه إلى الوضوح ، يفقد عمق الوجود ، وفي رغبته في النظام ، يقتل الفوضى الخلاّقة التي تنتج المعنى . 

رابعا الزمن الممأسس وضياع اللحظة 

الوعي الحديث يعيش الزمن لا كتجربة ، بل كخريطة إننا نقسم اليوم إلى وحدات : صباح ، مساء، ليل ،ونقيس الوقت لا بوصفه تدفقا حيّّا ، بل بوصفه كمية قابلة للقياس في هذا التحويلة، نفقد الشعور بالزمن كجريان داخلي 

يقول هنري برغسون " حين نقيس الزمن نقتله" فما يفعله الانسان المعاصر أنه يعيش زمن الجداول لا زمن التجربة ومنه يصبح اليوم تكرارا واللحظة رقما والوجود عادة 

خامسا من الوعي الكلي الى إنمحاء الذات 

في انغماس الإنسان في الكليات ، يذوب شعوره بذاته فهو يتحدث كما يتحدث الجميع يروي كما يروي الجميع ويعيش كما يفترض أن يعيش إن الكلي ، في هذا المستوى ، لا يعود أداة للفهم فقط ، بل يصبح قيدا وجوديا يحدّد طريقة الإحساس والفكر واللغة إن أخطر ما في الكلي أنه يخفي تفرد الذات ويقيسها بمقاييس عامة ، فينتهي الإنسان إلى عيش حياة لا تخصه. 

سادسا الفلسفة كفنّ لاستعادة الجزئي 

الفلسفة في عمقها ، هي مقاومة دائمة لإغراء الكلية إنها تعيدنا إلى التفاصيل الصغيرة التي نحذفها باسم الفهم، وتذّكرنا بأن المعنى يسكن الهامش لا المركز ، الجزئي لا الكلي. فأن نفكر فلسفيا، يعني أن ننزل من برج التجريد ألى أرض التجربة، أن نرى في التفاصيل اليومية أفقا للوجود

كما يقول فالتر بنجامين 

" الحقيقة لا تسكن في المفهوم ، بل في تلك الجزئية الصغيرة التي يتغاضى عنها الجميع" 

خاتمة نحو وعي بالجزئي 

ربما لا يمكن للانسان أن يتحرر من الكليات كليا ،لكنها ليست قدره النهائي إن استعادة الجزئيات ليست ترفا معرفيا ، بل ضرورة وجودية ، لأن الإنسان لا يقاس بما يعممه ، بل بما يعيشه