محمود درويش الشاعر الكَوني الفلسطيني

أمل علي
كاتبة
آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
لا توجد تعليقات

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق

تسجيل الدخول

محمود درويش.. الشاعر الكَوني الفلسطينيمحمود درويش.. الشاعر الكَوني الفلسطيني

كثيرًا ما كنت أسأل أبي في طفولتي لِمَ تُحب كتابات محمود درويش هكذا، ومنذ حينها لم تغِب عنّي ابتسامته الهادئة حين كان يجيبني في كل مرّة " حين تكبرين سوف تدركين مدى عظَمة هذا الرجل"، ورحل أبي تاركًا لي إرثًا من دواوين ذلك الشاعر الذي لم أكن أعرف عنه سوى أنه شاعر فلسطيني، وكبرت وكبر معي السؤال وحين وصلت للإدراك أيقنت ما كان يعنيه أبي، حملت معي حروفه، التي صارت نبضًا يرافقني أستلهِم منه الكثير من فلسفة الحياة التي لم يُمهل القدر أبي كي يعلّمها لي، وصار دومًا "درويشي الحبيب".

محمود درويش ابن الأرض وشاعرها

على مدار أيامنا الماضية ونحن نشهد "طوفان الأقصى" وأسمع مع كل خبر أُطالعه صرخة درويش حين يقول" على هذه الأرض ما يستحق الحياة" نعم هى فلسطين التي دار يُلقي بأشعاره عنها على مسامع الكون في كافة محافله، ولقاءاته، وفي صحوه ونومه طوال عمره ظل يردّدها: "على هذه الأرض؛ سيدة الأرض، أُم البدايات .. أُم النهايات كانت تُسمى فلسطين، صارت تُسمى فلسطين، سيدتي: أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة" فلن تستطيع قوًة على الأرض أن تمحي ذرّة من تراب الأقصى، فكيف وكل حجارة تنطق بكلماته وتعلن للكون أنه: هنا أُناسٌ يحبّون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا.

درويش البعيد القريب رمز التحدي والصمود

ربّما ارتحلَت روحك أيها الدرويش، إلى ما وراء الحياة ولكني أوقن أنّك قد تتظاهر بالموت، ألم تقُل لنا يومًا "قتلوني في القدس ونسيت أن أموت! نعم كنت ولا زلت بيننا، وتسري أشعارك في أوردتنا، حين تنسج لنا من ريتا قصيدة عشق لا حدود له، ويطير الحمام على أرض فلسطين الوطن الذي لم ولن يكُن له بديلًا، نعم أنت هنا تحملك النسمات حينًا مع ياسمينة في يافا، إلى زر فلّ لا زال متفتّحًا في البروة، وصوتك الشجي يصدح ويملأ الأرجاء من الأقصى إلى كنيسة القيامة، نعم نسمع حروفك الآن تهديها إلينا قنابلًا للصمود، ونبراسًا للأمل "لا تصِف ما ترى الكاميرا من جروحكَ، واصرُخ لتسمع نفسك، واصرُخ لكي تعلم أن الحياة على هذه الأرض ممكنة".

الشاعر العاشق وأرضه الحبيبة

لم يكن محمود درويش شاعرًا بالصدفة، ولم تنبض الإنسانية بروحه من العدم، فكم عانى الكثير وتألم أكثر لجُرح وطنه الذي لم يندمل بعد، فكم شكّل الجرح لديه خط إنسانيّة ممتدً إلى ما بعد حياته، وذلك حيت اضطر مع اهله وهو طفلًا إلى مغادرة منزل الجد بقريتهم "البروة" في عام 1984 حين صار التهجير أمرًا حتميًا للنجاة، وبعد أن أصبحت الحياة مستحيلة من دون بيته، تسلل مع أهله مرّة ثانية إلى بيتهم العتيق، فإذا بالصغير يفيق على جرح أكبر، وهو أن البيت لم يعُد لهم ولا الأرض ولا حتى الجنسية، فقرروا العيش جميعًا على أطراف قريتهم، يتنفسون عبق ذكرياتهم بها، في حين استوطن الألم قلوبهم حين قام الاحتلال ببناء منازله من أحجار البيت الكبير، بيت الجد الذي صار أنقاضًا لا تحمل سوى الذكرى، الذكرى، بينما كان ينمو كان ينمو الألم والشعر في صدر درويش، فأصبح لا ينبض إلا بعشق الوطن ولا يتنفس إلا الصمود والوقوف بحروفه بكل ما أوتي من قوّة في مواجهة العدوّ، حتى أنه ظل لآخر نقطة في دمه يدافع بقلمه عن فلسطين الأرض والهويّة، يُشهر أشعاره في وجه الاحتلال، دونما قيد أو خوف وينسج من حروفه علمًا وكوفيّة فلسطينية رمزًا يلامس قلوب البشر في كل أرجاء الأرض، وسار يحكي للعالم عن أمه وحبيبته وأرضه ووطنه وعشقه الأكبر، حين قال: آه يا جُرحي المُكابر، وطني ليس حقيبة، وأنا لست مُسافر، إنني العاشق، والأرض حبيبة.

محمود درويش وقهوة أمّه

كبر درويش وكبرت معه روح المقاومة والمطاردة أيضًا، حتى أن سلطات الاحتلال قامت باعتقاله لمدة 11 عامًا بتهمة نضاله وأشعاره، بينما كان صامدًا صبورًا، ينسج قصائده على أسوار سجنه، إلى أن جاءته أمه يومًا زائرًة سجنه، ومعها إبريقًا من القهوة التي كانت رفيقة صباحه الدائمة ، فما كان من السجان إلا أن سكبه أمامها، وتساقطت دموع الأم لآلئ أضاءت في قلب درويش أروع الحروف وأعظمها إبداعًا حين كتب" أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وتكبُر في الطفولة

يوماً على صدر أمي، وأعشق عمري لأني إذا مت، أخجل من دمع أمي".

درويش ما بين منظمة التحرير وحلم الحُرّية

محمود درويش.. عضوًا باللجنة التنفيذية لمنظمة التحريرمحمود درويش.. عضوًا باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير

ظل درويش طريدًا طوال حياته ما بين موسكو وبيروت وباريس والقاهرة، بينما كانت لكل مدينة يعبر إليها بصمات حانية نُقشت بداخله، وهو المحب للحياة وللإنسانية والبشر، والعاشق المتيّم بالوطن، فقد كانت بوصلته الرئيسية هى "فلسطين" وظل يدور في مداره متسائلًا لروحه والبشر والحجر، متى ينتهي هذا التيه الفلسطيني الكبير؟ إلى أن صعدت من داخله أصدق الكلمات: "هناك ورد في القلب، نحلٌ وفراش في الحلق، ونساء وذكريات، كل الحياة الجميلة موجودة في جسدنا الممزق، المثبت على الصليب منذ ألفي سنة"، وهنا وجد ذاته تتجه نحو فلسطين من جديد، فقرر الانضمام لمنظمة التحرير، برتبة مناضل، وأصبحت له الأهل والعائلة، حتى قال لأبيه، لم أكن لك وحدك ابنًا، فأنا صرت ابن كل فلسطيني، إلى أن صار عضوًا باللجنة التنفيذية بالمنظمة، وحينها قام بكتابة "وثيقة الاستقلال الفلسطيني" والتي تم رفضها من الجانب الاسرائيلي، مما اضطره للمغادرة مرّة أخرى حاملًا على كاهليه أشعاره ووطنه .

سنوات على رحيل الحاضر الغائب

قضى درويش مشواره الشعري الإنساني الطويل، بين عواصم العالم العربي والأوروبي، وتتربع على عرش قلبه فلسطين الأم وبكل مكان كان يحل به، كانت تنتظره الحفاوة والتقدير الذي يليق بشاعر فذّ مثله أثر في الشعر العربي المعاصر تأثيرًا لا يضاهيه أحد، وبعد رحيله، خلّد الكون كل حرف من حروفه، وكَم من أشعار له تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات كي يُعلن العالم أن هناك على أرض فلسطين وُلد ذلك الإنسان وظل إنسانًا مؤمنًا بالله وبقضية وطنه، ومدافعًا عن كل ذرة ترابه حتى آخر لحظات عمره، فالشاشات العربية والعالمية دائمًا ما تحتفي في يوم ميلاده، ويوم رحيله بكلماته التي لا يستطيع الزمن نسيانها، فتارًة نجده يطالعنا بأروع قصائده في ندواته ومؤتمراته، وتارًة نرى مواقع التواصل الاجتماعي تزدان بصوَره وأروع ما كتب عن هويته ووطنه، وتارًة نستشهد بما كان يقوله: "أيّها العابرون على جسَدي، لن تمرًوا، أيهَا العابرون بين الكلمات العابرة، منكم السيف، ومنّا دَمنَا، كدّسوا أوهامكم في حفرة مهجورة ، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس أو إلى توقيت موسيقى مسدس فلنا ما ليس يرضيكم هنا" نعم هُو محمود درويش.

محمود درويش الشاعر الكَوني الفلسطيني

دمتَ دومًا أيها الشاعر الاستثنائي، نبراسًا وأيقونة نضال، فلم تنجب الإنسانية شاعرًا مثلكَ ولن تُنسى يا خالد الذكر والذكرى، سوف تظل كلماتك تعلو حد السماء " لنا الحاضر والحاضر والمستقبل، والدنيا هنا... والآخرة، فاخرجوا من أرضنا من برنا ..من بحرنا مِن قمحنا .. مِن مِلحنا .. مِن جرحنا من كل شيء، واخرجوا من مفردات الذاكرة".

أمل علي

أمل علي

كاتبة

مرحبًا، أنا أمل، كاتبة ومحررة للأخبار والاحداث في العديد من المجالات

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ