ماتت أمي و الجاني هو أبي

نشرت:
وقت القراءة: دقائق

كانت غبطتي لا تقاوم بنجاح عملية أمي ... لحظات قبلها كان الخوف يغمرني عانت أمي بما فيه الكفاية في حياتها من مرض توغل في جسدها أضعفها يوماً بعد يوم ، كانت أصعب أيام في حياتي مشاهدة ملامح وجهها البشوشة تذبل و آثار السقم بادية عليه، بارزة بروز الشمس ... السواد تحت عينيها يزداد قتامة، التجاعيد على وجهها كثرت ، كانت كأنها تكبر كل ساعة لا كلّ سنة.. كلّ أنين يخرج من فمها مثل غرزة سكين في قلبي ... و أخيرا جمعتُ المال الكافي لعملية أمي من عملي الجانبي ، أهملت دراستي الجامعية من أجل ساعات إضافية في العمل أكسب بها قريشات زائدة لأعجل بالعملية لأنني لم و لن اكون مستعدا لأن أخسر من أفنت عمرها من أجلي ، رغم نسبة الخطر الكبيرة في العملية إلا أنني لم أكن لأقف مكتوف اليدين دون أن أحاول .. بعد أن رفض أبي التكفل بجميع مصاريفها بحجة أنه لا يدين لوالدتي بشيء و أنها قد خرجت عن مسؤوليته بعد عجزها ...

ماتت أمي و الجاني هو أبي
ماتت أمي و الجاني هو أبي

لكن صوت الطبيب يطمئنني بكلمات كان وقعها على قلبي كرضيع باكي هدأ بسماع صوت والدته أخيراً بعد جلبة صريخ و نواح بقية الرُّضع الذين أجبروا على مشاركة نفس الغرفة ... خرج الطبيب من غرفة العمليات و نزع القناع الطبي من على وجهه و تحدث بلهجة مرحة نوعاً ما و بأسارير منفرجة :" الحمدلله لقد نجحت العملية.. لا يسعني القول إلا أنها تعتبر معجزة أن تنجو من مثل هذه العملية الخطيرة بحالتها المتأخرة من المرض ، لكن مع هذا يجب على المريضة ان تتلقى قدرا وافيا من الرعاية و أن تأخذ قسطا كبيراً من الراحة عليها أن لا تتعب أبداً و إلا ستصبح حالتها أسوأ من قبل، و بإذن الله سيصبح بإمكانها إن أرادت العودة إلى منزلها مساء الغد "

أردت حينها من شدة فرحي أن أنقض على الطبيب و أحضنه ، شعرت أن العالم باكمله لم يعد يسعني من السعادة ، لحظات كهذه أنستني شقاء سنين ، أنستني في كلّ عرق تصبب من جلدي من شدة التعب، أنستني آلام العمل الشاق.. أحسست فِعلاً أنني أطير عالياً ، أرى آلامي تحلق بعيداً عني في الأفق البعيد ، كأن الكون بكبره تقلص ليصبح بحجم نملة حيث لم يكن فيه للحزن وسع ... مرّت الليلة بلمح البصر إستيقظتُ و السرور لا يزال مسيطراً علي ، قبلت جبين أمي الحنون و تأملت في وجهها المنير وقد عادت إليه البهجة من جديد ... هممت بجمع أغراض أمّي بخِفّة و أتممت جميع إجراءات المشفى ، سعيدٌ بأخذِ أمي إلى المنزل لتستجم أخيرًا بعد الهم و الوجع الذي حملته سنيناً طويلاً الآن وقد نجحت العملية ....

وصلتُ عند باب البيت أخيراً بعد رحلة من المشفى في سيارة الأجرة بدت و كأنها أطول رحلة أخوضها في حياتي إذ نفذ صبري لأضع أمّي في فراشها الدافئ لتريح بدنها الهزيل ، طرقتُ الباب بمرح غير متمالكاً فرحتي التي لم أستطع إخفائها بأي شكل كان .. لأصدم بوالدي يطردنا من أمام الباب لم يتكبد حتى عناء النظر إلى وجوهنا ، بل إكتفى بالتحدث إلينا من فتحة الباب الصغيرة بقسوة وهو يوجه بصره نحو الأرض كأنَّ جزءاً منه يشعر بالذنب لكنه لايريد الإعتراف به ، لم يشفق على فلذة كبده الوحيد و مجهوده الذي بذله في سبيل جمع المال من أجل العملية ، بل لم يشفق على من حملتني في بطنها تسعة أشهر ، على هذه المرأة التعيسة .. أغلق الباب بعنف في وجوهنا بكل برود ، جثمتُ على الأرضية الباردة أمام المنزل الذي نفينا منه ولا مكان آخر نلجأ إليه .. أحدق في وجه والدتي المرهق و تعتريه ملامح الحزن التي بدت و كأنها ولدت بها، لم يسعني سوى أن أذرف دموع الأسى و اليأس ... حتى آخر ما تبقى لي من نقود أنفقته على سيارة الأجرة و القليل من الطعام الذي لا يغني من جوع .. ترجف والدتي من الصقيع الذي لا يحتمله إنسان بهذا الوهن و الدموع تنزل على خدّها ببطئ كأنها مرهقة هي الأخرى مترددة بين أن تظهر نفسها أو تعود أدراجها مختبئة لا يدري عنها أحد ، نزعت معطفي و وضعته على كتفها عسى أن يحميها و جرحها الحديث من آثار الشتاء القاسي .. حتى في حالها هذا تنهاني عن خلع المعطف لألا أصاب بنزلة برد، أي قلب هذا لديك يا أماه ... بدأتُ بإخراج كلّ ما تمكنت من اخراجه من الحقيبة ، من ملابس و لحاف لأغطيها، إلاّ أن جسدها المريض كان أضعف من أن يتحمل أكثر من بضع سويعات في مثل هذا البرد .. ماتت أمي و الجاني هو أبي ...

اقرأ ايضاّ