كيف نتأدب في زيارة المدن؟

أنس مغفور
كاتب مقالات و محتوى متنوع
نشرت:
وقت القراءة: دقائق

حينما تحملك رياح الترحال إلى مدينة لم ترها عيناك من قبل، فاعلم أنك محظوظ لأنك ستجمع بين دهشة الإكتشاف و حلاوة المعرفة. فأما الدهشة فسرها كامن في اختلاف الأمكنة بتفاصيل التاريخ و طبائع الناس. صنعاء ليست القاهرة و جدة ليست فاس و دلهي أبعد ما تكون عن باريس. كل مدينة عالم قائم بذاته، له أسراره و طقوسه و فرادته. لكن المدن كيفما كانت و حيثما وجدت تطلب منك شيئا واحدا قبل أن تفتح لك ذراعيها و تفصح لك عن أسرارها. نعم. هي تطلب شيئا واحدا: الإحترام. عليك أن تدخلها و أنت تبادرها بالتحية و السلام و أن تمكث فيها ضيفا غير متطلب بل راضيا بما تمنحك إياه من عطاء، فهي لا تعطي زائرها إلا بقدر.

كيف نتأدب في زيارة المدن؟

لا تراود المدن عن نفسها فتستعصم

قد تكون شخصا منظما فتدقق في تفاصيل سطور أكثر المنشورات السياحية بسطا لوقائع التاريخ و معطيات الجغرافيا. ستلج المدن حينها من الباب الضيق للصرامة المعرفية. لكن المدن ستتمنع عليك و ستعود منها كما جئتها، ظمآنا. ذلك أنك نسيت أن المدن هي أولا، ما يختبئ في ابتسام أهلها و تجهمهم، هي التجاعيد على لبنات أسوارها و الأغاني حين ينشدها الحرفيون في ورشاتهم، هي إيقاعات الأقدام الغادية الرائحة في أزقتها و حواريها. روح المدينة ليست فيما تبديه لك بل فيما تحاول أن تخفيه عنك كي تتحدى فضولك و تستدرج قدرتك عل فك الألغاز.

حين تزور مدينة لا تعرفها اخفض لها جناحك و استسلم لعبقها و انقد لها. إذا جعت استطعم أهلها و لا تنكر عليهم إن لم يطعموك. و إن رأيت جدارا يوشك أن ينقض فلا تحول أن تقيمه كي تتخذ عليه أجرا، فذلك شأن المدينة و لها فيه حكمة أنت لا تعلمها. هكذا و هكذا فقط، تجتاز اختبار الولوج إلى روح المدينة. و بعد هذا فقط تفصح لك المدينة عن قصص أبطالها الذين لن تجد أسمائهم في مصنفات المؤرخين، أولائك الأبطال الذين عاشوا و ماتوا بلا مجد، لكنهم تركوا بصمات تخطئ رؤيتها أغلب العيون.

أماكن لا بد أن تزار...في كل مدينة

لا تعرف مدينة حق المعرفة حتى تطبع في ذاكرتك سحنات أهلها المغادرين و العائدين. لا تفوت إذن أماكن العبور: محطات القطار، أرصفة الموانئ، البوابات و المطارات. في هذه الأماكن، لا تكن عابرا بين العابرين. اتخذ لك مكانا و امنح لنفسك ما يكفي من الوقت ثم ارسم في ذاكرتك تفاصيل الوجوه و دقائق الملامح. فتلك أشياء تقول الكثير عن المدن.


اقرأ ايضا

    لا تضع في زحمة الشوارع و الأسواق و استعض عنها بدور الولادة حيث تضع النساء الأجيال القادمة من سكان المدينة، و إن استطعت أن تصغي إلى صراخ المواليد و أن تميز فيه نبرة فريدة كان ذلك هو المطلوب. أما إذا فرغت فزر المقابر و أصخ السمع في سكونها و حاول فك رموزه، فلا شك أن الراقدين تحت التراب يحاولون أن يستودعوك أسرار المدينة.

    و أخيرا، في كل مدينة أنت زائرها، لا تنس أن تترك جزءا منك يرفرف في أجواءها: دعابة تقاسمتها مع شيخ يتوكأ على عصاه، كفا ربتت به على كتف طفل مسرع إلى قاعة الدرس أو ماء اغترفته يداك من نبع يسقي منه الناس.

    قبل الرحيل، اعتذر و استأذن

    إن استطعت إلى ذلك سبيلا، فاطرق أبواب المنازل بابا بابا، و اعتذر عن أي إزعاج يحتمل أن يكون قد بدر منك، و استأذن قبل الرحيل. فللمدن حرمة لا بد أن تراعى. تدخلها مستأذنا و تغادرها مستأذنا. هكذا تضمن أن تظل في ذاكرتك و ترجو أن لا تمحوك من ذاكرتها. للمدن مقام لا بد فيه من تأدب. فإن عرفت ذلك و فهمته فقد تم لك المراد و لعل الله يردك إلى المدينة بعد حين فيطمئن بذلك قلبك و لا تحزن.

    أنس مغفور

    أنس مغفور

    كاتب مقالات و محتوى متنوع

    تصفح صفحة الكاتب

    اقرأ ايضاّ