حينما تحملك رياح الترحال إلى مدينة لم ترها عيناك من قبل، فاعلم أنك محظوظ لأنك ستجمع بين دهشة الإكتشاف و حلاوة المعرفة. فأما الدهشة فسرها كامن في اختلاف الأمكنة بتفاصيل التاريخ و طبائع الناس. صنعاء ليست القاهرة و جدة ليست فاس و دلهي أبعد ما تكون عن باريس. كل مدينة عالم قائم بذاته، له أسراره و طقوسه و فرادته. لكن المدن كيفما كانت و حيثما وجدت تطلب منك شيئا واحدا قبل أن تفتح لك ذراعيها و تفصح لك عن أسرارها. نعم. هي تطلب شيئا واحدا: الإحترام. عليك أن تدخلها و أنت تبادرها بالتحية و السلام و أن تمكث فيها ضيفا غير متطلب بل راضيا بما تمنحك إياه من عطاء، فهي لا تعطي زائرها إلا بقدر.
![كيف نتأدب في زيارة المدن؟](https://images.nathre.com/max-830-457-80-avif/images/202451/1653c58a-cda1-4c0c-8cc7-aa0d6059bea1.jpg)
لا تراود المدن عن نفسها فتستعصم
قد تكون شخصا منظما فتدقق في تفاصيل سطور أكثر المنشورات السياحية بسطا لوقائع التاريخ و معطيات الجغرافيا. ستلج المدن حينها من الباب الضيق للصرامة المعرفية. لكن المدن ستتمنع عليك و ستعود منها كما جئتها، ظمآنا. ذلك أنك نسيت أن المدن هي أولا، ما يختبئ في ابتسام أهلها و تجهمهم، هي التجاعيد على لبنات أسوارها و الأغاني حين ينشدها الحرفيون في ورشاتهم، هي إيقاعات الأقدام الغادية الرائحة في أزقتها و حواريها. روح المدينة ليست فيما تبديه لك بل فيما تحاول أن تخفيه عنك كي تتحدى فضولك و تستدرج قدرتك عل فك الألغاز.
حين تزور مدينة لا تعرفها اخفض لها جناحك و استسلم لعبقها و انقد لها. إذا جعت استطعم أهلها و لا تنكر عليهم إن لم يطعموك. و إن رأيت جدارا يوشك أن ينقض فلا تحول أن تقيمه كي تتخذ عليه أجرا، فذلك شأن المدينة و لها فيه حكمة أنت لا تعلمها. هكذا و هكذا فقط، تجتاز اختبار الولوج إلى روح المدينة. و بعد هذا فقط تفصح لك المدينة عن قصص أبطالها الذين لن تجد أسمائهم في مصنفات المؤرخين، أولائك الأبطال الذين عاشوا و ماتوا بلا مجد، لكنهم تركوا بصمات تخطئ رؤيتها أغلب العيون.
أماكن لا بد أن تزار...في كل مدينة
لا تعرف مدينة حق المعرفة حتى تطبع في ذاكرتك سحنات أهلها المغادرين و العائدين. لا تفوت إذن أماكن العبور: محطات القطار، أرصفة الموانئ، البوابات و المطارات. في هذه الأماكن، لا تكن عابرا بين العابرين. اتخذ لك مكانا و امنح لنفسك ما يكفي من الوقت ثم ارسم في ذاكرتك تفاصيل الوجوه و دقائق الملامح. فتلك أشياء تقول الكثير عن المدن.
اقرأ ايضا
لا تضع في زحمة الشوارع و الأسواق و استعض عنها بدور الولادة حيث تضع النساء الأجيال القادمة من سكان المدينة، و إن استطعت أن تصغي إلى صراخ المواليد و أن تميز فيه نبرة فريدة كان ذلك هو المطلوب. أما إذا فرغت فزر المقابر و أصخ السمع في سكونها و حاول فك رموزه، فلا شك أن الراقدين تحت التراب يحاولون أن يستودعوك أسرار المدينة.
و أخيرا، في كل مدينة أنت زائرها، لا تنس أن تترك جزءا منك يرفرف في أجواءها: دعابة تقاسمتها مع شيخ يتوكأ على عصاه، كفا ربتت به على كتف طفل مسرع إلى قاعة الدرس أو ماء اغترفته يداك من نبع يسقي منه الناس.
قبل الرحيل، اعتذر و استأذن
إن استطعت إلى ذلك سبيلا، فاطرق أبواب المنازل بابا بابا، و اعتذر عن أي إزعاج يحتمل أن يكون قد بدر منك، و استأذن قبل الرحيل. فللمدن حرمة لا بد أن تراعى. تدخلها مستأذنا و تغادرها مستأذنا. هكذا تضمن أن تظل في ذاكرتك و ترجو أن لا تمحوك من ذاكرتها. للمدن مقام لا بد فيه من تأدب. فإن عرفت ذلك و فهمته فقد تم لك المراد و لعل الله يردك إلى المدينة بعد حين فيطمئن بذلك قلبك و لا تحزن.