كهوف لا تدخلها الشمس

أحمد القاضي
كاتب وقاص وروائي
نشرت:
وقت القراءة: دقائق

في كهوف لا تدخلها الشمس، كهوف من مكاتب نمطية، ستائر بائسة تتدلى لحجب ما يمكن له الوصول لتطهير أعطان خفافيش، تدلت من أسقف اتخذتها حلية لها، وإضاءة كاذبة، لا هي تريح عين، ولا تشبع عطش الرؤية الطبيعية.

كهوف لا تدخلها الشمس

وكراسي منها الدوارة والثابتة الأبية، تصمد أمام أوزان عاتية، قد لا يكون أوزان جسدية بل نفوس ثقيلة، ترى أنها لا مثيل لها في البشرية، تفعل ما يحلو لها، وأجوبة جاهزة لأي أسئلة مُباغِتة، وردود تترد في كل موقف، تقلب الحقائق بحججٍ واهية.

مَنْ مِنْ ملاك يستطيع الصمود في تلك الأجواء المريضة؟، وكيف لصافي القلب يتحصن من سموم تبخها أفواه حيّات المكان؟.

قال علي سالم مدير الإدارة لسيد حازم المحاسب: خد الملف دة بتاعك، أنجزه بسرعة عشان مستعجلين عليه.

- ملف أيه؟

- ‏ ملف شحنة الأجهزة الإليكترونية الي جية على ميناء الإسكندرية.


اقرأ ايضا

    وقف سيد شاحب الوجه، تهتز سوداتا عينيه، ترتعش أطرافه وهو ينظر على من حوله، لمن يلعب البابجي، ومن يسمع أفلام التركي، على أجهزة الكمبيوتر عهدتهم، ومن ينام فاردًا رجليه على ما يقابله من الكرسي.

    ليسرح سيد في أفكار حزينة، تصحبها القلق والتوتر، وكبت المشاعر، إذ كلما زادت يزداد معه التعرق، وسرعة التنفس كأنه يركض، يسمع ضربات قلبه المتسارعة، وكأن قلبه تحرك لأذنه.

    ‏ليقول في نفسه : إيه الظلم دة؟

    ‏ ليه كل الملفات تجيلي؟

    ‏ ليه ديمًا ينده عليا أنا؟

    ‏وليه ما يندهش على غيري،

    ‏ومش هقدر أغلبه لأنه متكلم بارع، وهيلوح بأفضاله عليَّ، والأجازة الي حارب عشان يعطيهاني وهي حقي أصلا، وانا مش قادر على مواجهة اسلوبه المؤذي، يا لريت كان أبي أساء التربية.

    ‏سيد حازم ذلك المحاسب المسالم، لا يقوى على الصراعات ولا يتحمل المواجهات القاسية، شخصية حساسة، قلقة، عاطفية، رومانسية، مبدع، خلوق، إن كانت شخصيته محبوبة للغير، إلا أن عدم قدرته على الرفض، وصد الغير مع التعارض مع مشاعره الداخلية، كفيلة لنشوب صراع يكون هو الفقيد الوحيد.

    ‏مع هوس الأفكار، وتضاعف التوتر، والاضطراب، يحاول سيد الجلوس على المكتب، وكان ذلك ليس بالأمر الهين، فمن الصعب السكينة وسط المعارك الدفينة.

    ‏لينتهي الأمر بمقاطعة علي سالم بالمناداة: سيد،

    ‏ عملت أيه فى الملف ؟

    ‏ليسقط القلم من يد سيد.

    ويزداد وجه بالشحوب، واحمرار.

    بجبهة متصببة بالعرق في وسط بارد المشاعر، وبارد الأجواء بتكييف الهواء، لم يتغير من أمس، وأول الأمس، في كهوفٍ لا تدخلها الشمس.

    أحمد القاضي

    أحمد القاضي

    كاتب وقاص وروائي

    شارك في ثلاث كتب ورقية كاتب لمقالات متنوعة في العديد من المواقع العربية كاتب قصص قصيرة وراية أهتم بالكتابة في علم النفس والتاريخ وعلم السلوك وعلم الإدارة وعلم النفس الإداري

    تصفح صفحة الكاتب

    اقرأ ايضاّ