قابيل بطلا على شاشة الأخبار
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولفي كل لحظة و آن، تسوق لنا نشرات الأخبار سيلا جارفا من الأحداث المصورة و التعاليق التي تتمدد كي تجتاح حيزا كبيرا من أيامنا. يفترض في الخبر أن يفتح أمام عقولنا آفاقا لفهم أفضل للعالم من حولنا و إدراك جوهره و فك تعقيداته. ألسنا، في أول الأمر و آخره، جزءا من هذا العالم المترابط الأوصال؟ ألسنا معنيين بما يعتمل في بقاعه الدانية و القصية من وقائع و أحداث؟ نعم. نحن معنيون، بكل تأكيد. غير أن الإنسان، إذا ما أخذ مسافة الأمان الكافية من الخطاب المتداول، سيكتشف أن ثمة بونا شاسعا بين الخبر في حد ذاته و الصناعة المتطورة التي تجعل منه منتوجا يعرض على الشاشات.
الشاشة العنكبوت فخ يشل العقل
في زمن الحروب حيث تبلغ المآسي الإنسانية ذروة كثافتها فيجتمع القتل و الدمار و الألم و البشاعة، تنتعش سوق الخبر. تتدفق الصور و يشمر المحللون و الخبراء عن ساعد الجد و تتزين الإستوديوهات كي تغدو أكثر جاذبية. يتسمر الناس أمام الشاشات و عيونهم مشدوهة إلى المشاهد التي تعاد و تعاد ثم تعاد على رأس الساعة. هنا، يبدأ العنكبوت في نسج خيوطه واحدا تلو الآخر بإيقاع مضبوط و بعناية فائقة، فيجد المشاهد نفسه في نهاية المطاف مشلول العقل داخل فخ تحولت فيه المأساة إلى فرجة مكتملة العناصر.
في البدء، كان الخبر خاما. ثم جاءت الصناعة لتضيف إليه عناصر الإثارة و التشويق، و تزيد عليه في الحواشي ما يتضخم حتى يتضاءل أمامه المتن. إنه السوق بكامل مكوناته: المادة الخام تمتد لها يد الصناعة فتصير منتجا يعرض على الشاشات حتى يلبي حاجة لدى جمهور عريض من المستهلكين.
القتل ليس فرجة و القتلى ليسوا أرقاما
يقول الخبر:"سقط تسعة قتلى جراء قصف استهدف منزلا في حي السلام فجر اليوم. و أفاد مسؤول فرق الإسعاف أن الحصيلة مرشحة للإرتفاع بالنظر إلى العدد الكبير من المصابين بجروح بالغة الخطورة."
هكذا ورد الخبر عاريا باردا و مجردا. سيأتي الخبير ليضيف أن القذيفة المستخدمة في الإستهداف من عيار 125ملمتر و أنها موجهة بدقة باستخدام أقمار صناعية متطورة من الجيل الأخير.
هب أن القذيفة من عيار آخر. هب أنها أطلقت من مدفع أو مروحية. هل يحدث ذلك فرقا؟
هؤلاء التسعة الذين قتلوا كانوا قبل حين بيننا يمشون فوق الثرى. هم كانوا يحلمون، يفرحون و يبكون. هم كانوا مثلنا، ينتشرون في الأرض سعيا وراء أرزاقهم. هم كانوا يحاولون، مثلي و مثلك تماما، أن ينجزوا شيئا ذا قيمة في هذا العالم. كانوا يصيبون أحيانا فتمتلئ قلوبهم رضا، و كانوا ينكسرون أحيانا أخرى فيضرعون إلى السماء.
هؤلاء التسعة هم نحن بأسماء أخرى. هم تسعة و نحن بضع مليارات من الناس مرشحون على قوائم الأخبار العاجلة حيث الأرقام تمحو الأسماء و الهويات و الحيوات.
إن كان هناك شيء على الأخبار و الحروب أن تذكرنا به فهو هذا: قابيل مازال فينا ساكنا مقيما في الزوايا المظلمة من أرواحنا.
قديما كان القتل، و حاضرا القتل باق، و غدا سيسفك الإنسان الدماء.
و هكذا ستستمر الأخبار العاجلة و مع كل بشاعة يرتكبها الإنسان سترتفع نسب المشاهدة.