
الضوء الذي لا يعد بشيء
كان الضوء أبيض... أكثر مما ينبغي. ليس كبياض الشروق حين يمسّ وجنة العالم بلطف، ولا كنور المصباح حين يتدلّى من سقف الغرف المعتادة، بل لون ثالث، خالٍ من العزاء، لا طعم له، لا حرارة، لا وعد. بدا له كأن الضوء نفسه قد نسي كيف يكون حنونا.
شيء في داخله كان يتقلب ببطء… كأن الحياة تحاول أن تستعيد صوتها عبر غشاء سميك من الغياب. عينيه لم تفتحا، بل تسرّب منهما الإدراك على هيئة ومضات بلا شكل. لم تكن رؤيته واضحة، ولم يكن الظلام دامسًا. بل هو، هو نفسه، كان معلقًا بين ما يشبه الوعي، وما يشبه النهاية.
وحين فُتح الجفنان، لم يكن الفتح لحظة، بل انشقاقًا مؤلمًا في لُحم الصمت. شعَر كأن جفنيه صدآن، كأنهما جزء من باب قديم ظلّ مغلقًا لعقود، وكل ما حوله كان... هشًا.
كل شيء في الغرفة بدا بلا نكهة، بلا زمن. الجدار قريب أكثر مما ينبغي، والسقف يميل قليلاً نحوه كأنه يراقبه، والهواء معقّم برائحة لا تنتمي لأي بيت أو شارع، بل تشبه تلك الذكريات التي لا أسماء لها، فقط تعيش فينا مثل أحلام لم نخبر بها أحدًا.
حاول أن يحرّك يده، لم تتحرك. لم يندهش. لم يخف. فقط أدرك أن الجسد لا يعود كما كان بمجرد أن تصحو منه. الرأس؟ لم يكن رأسه. ثقيل، مبلّل بسُباتٍ غريب، وكأن أحدًا تركه على وسادة باردة منذ دهر، ثم نسي أن يعود.
هو في غرفة، يعرف ذلك دون أن يراها بوضوح. يعرف ذلك كما تعرف شجرةٌ أنها في أرض لا تشبه جذورها. كل شيء ساكن، كل شيء بلا يقين. الصوت الداخلي الذي اعتاد أن يُحدّثه في اليقظة غائب، كأنّه أيضًا كان نائمًا معه، أو مات قبله.
ثم، ومن بُعدٍ لا يُقاس، اقترب وجه.
في البدء لم تكن هناك دهشة. كانت النظرة ثابتة، وادعة، أقرب إلى صبرٍ طويل نسي صاحبه سبب انتظاره. كانت امرأة. في عينيها ضوء بلا استفهام، فقط حضور... كأنها تعرفه من دون أن تنتظر منه أن يعرفها.
يدها لامست يده، الجامدة مثل صخرة في قاع نهر قديم. لم تكن تلك اللمسة مجرد دفء... بل كانت شيئًا آخر، شيئًا لا يُقال. همست:
"مرحبًا بك من جديد..."
الصوت... لسبب لا يعرفه، جعله يرتجف من الداخل. لا ارتجافة خوف، بل اهتزاز في النسيج العميق منه، كأن شيئًا ما تحرّك لأول مرة بعد أن كان مُطفأ لسنوات.
مرّ الاسم في ذهنه بلا مقدمات:وصال.
لم يقلها. لم يهمس بها. لكنه سمعها داخله وكأن الحياة تتذكر نفسها فيه.
هي لم تكن الغريبة، بل هو. هو الذي صار غريبًا على جسده، على اللغة، على الإدراك، على اسمه.
النبض الخافت في الأجهزة، تنفّس منتظم من آلة، صوت خطوات ناعمة خلف الستائر، أبواب تُفتح وتُغلق، أصوات لا تعنيه… كل ذلك لم يكن حوله، بل يدور فيه، كأن الحياة تُهيّئ نفسها لتقول له شيئًا.
شيئًا واحدًا.
"أنت حي."
لكن أي حياة؟ وأي زمن؟ وأي جملة قد تشرح ذلك الفراغ الممتد بين اللحظة واللحظة، بين أن تكون... وأن تكون متأخرًا؟
لم يعرف. ولم يسأل.
فقط تنفّس بصمت، كمن جرّب للمرة الأولى أن يستعيد جسده قطعة قطعة.
وفي تلك اللحظة… لم يكن بحاجة لأكثر من ذلك.
الصوت الذي يُفقد المعنى
في اليوم التالي، أو ربما بعد أكثر من يوم… لم يكن يعرف، فالزمن حين يُفقد لا يعود كما كان، يصبح بلا ملامح، بلا ترتيب. حين فُتح الباب، لم يكن الصوت هو أول ما شعر به، بل التغير في الهواء… نسمة مختلفة، حذرة، تحمل رائحة جديدة لا تشبه تلك الرائحة المعقمة، كأن شخصًا دخل ومعه شيء من الخارج، من مكان آخر… من حياة أخرى.
الرجل الذي دخل كان يرتدي معطفًا أبيض، ونظراته تحمل مزيجًا مربكًا بين الاطمئنان والاحتراف، كأن الحياة حين تُقاس بالأجهزة لا تملك أن تكون أكثر من "مؤشرات". وقف عند طرف السرير، تأمل الشاشة للحظة، ثم حدّق في سرمد، لا نظرة مشاعر، بل نظرة علم، وكأنّ ما يراه هو نتيجة، أو معجزة لم يكن ينتظرها.
"أهلًا بك… سرمد، صح؟"لم يجب. لم يُحرّك شيئًا. لكنه كان يسمع، وكان يعلم أن الصوت موجه إليه، وكان شيئًا في عينيه يرمش، كأن روحه تنبّهت قليلاً.
الطبيب اقترب، ثم جلس على طرف الكرسي الذي لم يكن يُستخدم، وقال بصوت خافت، أشبه بشرحٍ لخبر لا يمكن تلطيفه:
"استيقظت، وهذا بحد ذاته… معجزة."
سكت قليلًا، ثم تابع، كمن لا يريد أن يصدم لكنه لا يملك إلا الحقيقة:
"أنت كنت… في غيبوبة. لوقت طويل."
صمت.كلمة "غيبوبة" لم تدخل قلبه، بل ارتطمت بجدار ما في داخله، وعلقت هناك، دون تفسير، كأنها لا تخصّه.
الطبيب لاحظ شروده، فأضاف بصوت أكثر هدوءًا:
"إثنا عشر عامًا."
قالها كما يُقال رقم في ورقة، لا كما يُقال زمن ضائع من عمر رجل.
في تلك اللحظة، لم يكن الصوت هو ما آلمه، بل المعنى.لم تكن الكلمة جرحًا… بل كانت سكينًا تقطع خيوطًا لا تُرى.إثنا عشر عامًا؟رقم؟لا.إنها حياة بأكملها، مضت عليه كغمضة عين… وعلى الآخرين كألف يوم من التغيّرات، والخسارات، والقرارات التي لم يكن جزءًا منها.
حاول أن يتكلم، أن يقول شيئًا، أن يسأل، لكن صوته خرج كأن أحدًا أخذه منه ثم أعاده إليه بلغة أخرى…مبحوح، غريب، لا يعرفه:
"وين… مها؟"
الاسم خرج منه دون تخطيط، دون تمرين. كأنه محفور في ذاكرته، كأن الزمن كله لم يستطع اقتلاع هذا السؤال من قلبه.
كان الطبيب ينظر إليه، لكنه لم يرد. لم يكن يعرف الجواب.ثم دخلت وصال، في توقيت بدا كأنه مُنسّق مع الحياة نفسها.
كانت ملامحها ساكنة، لكنها حين سمعت السؤال… نظرت إلى الأرض، كما لو أن الأرض هي الوحيدة القادرة على حمل هذه الحقيقة دون أن تنكسر.
قالت بصوت ناعم، لكنه مشبع بثقل سبع سنوات:
"غادرت… من سبع سنين. توقّفت عن زيارتك بعد عامين."
لم تكن كلماتها قاسية. بل كانت هادئة لدرجة أنّها تركت في قلبه أثرًا أكثر ألمًا من الصراخ.
هو لم ينكسر.الانكسار يحتاج إلى تماسك مسبق، وهو لم يكن قد تماسك بعد.لكنه شعر فجأة أنه يطفو… ليس خفيفًا، بل منسلخًا. كأن جسده لا يربطه بالأرض شيء، ولا بالماضي، ولا حتى بالحاضر الذي أمامه.
كأن وجوده نفسه… معلق.
تنفّس ببطء. سأل بعد لحظة، بصوت فيه ارتجاف خافت لا تسمعه الأذن، بل تشعره الروح:
"وراكان؟"
توقف الزمن بين السؤال والجواب.ذلك الاسم، لم يكن مجرد اسم. كان آخر ما تبقى له من نفسه، من صورته كأب، من وهم الأيام القادمة التي كان يراها ذات يوم.
قالت وصال، بنفس النبرة التي تحترم الغياب كما تحترم الموت:
"صار شابًّا… في الخامسة والعشرين."
خُيّل إليه لوهلة أنه سيسقط. لكن أين يسقط من هو مستلقٍ أصلًا؟ابتلع الجملة، لم يبكِ. لم يصرخ. لم يطلب شيئًا.فقط أغمض عينيه، لا هربًا، بل كمن يُغلق بابًا على زمنٍ لا يخصّ أحدًا سواه.
ومن خلف الجفن المغلق، بدأت أصوات العالم تأتيه كأنها تطرق بابه من جديد…أصوات آلات، وممرّضين، وضوء يتغيّر، وضجيج المدينة البعيدة يصل كهمسة…ولكن كل شيء أصبح أضعف، أبعد، كأنه لم يعد يعنيه.
هو الآن يعرف.يعرف أنه "استيقظ"، لكن لا أحد قال له كيف يعود…كيف يكون حيًا وسط عالم لا يشبهه، وسط زمنٍ تجاوزه، وسط ابنٍ كبر دون أن يراه، وحبٍ انطفأ دون أن يودّعه، ومدينة تمشي بسرعة لا تناسب خطواته.
هو لم يخرج من موتٍ صغير… بل عاد إلى حياة لا تخصه.ورغم ذلك… جسده ينبض.وكأن الحياة، رغم كل شيء، لا تزال تسأله بصبرٍ قاسٍ:
هل أنت مستعد… أن تبدأ؟
الأيام التي لا تُحصى
لم يكن يعرف كم من الوقت مر. لا لأن الزمن صار بلا معنى، بل لأن عقله نفسه لم يعد يطلب العدّ. الأيام، أو ما يشبهها، كانت تتسلل من بين أصابعه كما يتسلل الماء من راحة يد مبلولة. يفتح عينيه أحيانًا، فلا يرى سوى الضوء الذي تغيّر لونه… لا لأنه تغير فعلًا، بل لأنه صار يرى العالم بعين جديدة، بعين من فقد تاريخه الشخصي ولم يتبقّ له سوى الحاضر المشوّه.
كان ينام وهو يقظ، ويصحو وهو لا يزال يحلم. الحواس عادت ببطء، لا كعودة الأشياء إلى أماكنها، بل كحكاية تُروى من جديد بلغة مختلفة. كل تفصيل كان يحتاج إلى تأمل، كأن جسده لا يصدّق ما يحدث داخله. حتى جلده كان يبدو غريبًا، كأنّه لم يُلمس منذ زمن، كأنّه لا يعرف الدفء ولا البرد، فقط تلك الدرجة المتوسطة التي يعيش فيها من لا يريد أن يشعر بشيء.
في اليوم الثالث، أو لعلّه الرابع، دخل الطبيب من جديد. حديثه كان موزونًا، مدروسًا، مليئًا بمصطلحات لا تملك حرارة الإنسان: "المؤشرات العصبية جيدة"، "الجسم بدأ يستجيب"، "التحفيز الذاتي إيجابي". كلمات ثقيلة، مطمئنة، لكنها تشبه الكلمات التي تُقال عند أبواب العزاء... فيها الكثير من النظام، والقليل من المعنى.
ثم قال الطبيب بجملة حاول أن يجعلها بشرية:
"كأن جسدك قرر أن يعود."
سرمد لم يرد.ابتسم بسخرية لم تصل إلى وجهه، فقط تحرّكت في داخله كفكرة مرّة، كإجابة لا تُقال.
كأن جسدي قرر؟وماذا عني؟من قال إنني قررت أن أعود؟هل كنتُ غائبًا أم متروكًا؟هل كانت الحياة تنتظرني لأقرر… أم أنها مضت، بكل ما فيها، دون أن تلتفت؟
ما من جواب.الأسئلة كانت تتكاثر في داخله دون صوت، تتكاثر كظلال تتزاحم في غرفة بلا نوافذ، كل ظلٍّ منها يحمل وجهًا قديمًا، ذكرى غامضة، إحساسًا كان يعرفه ثم نسي ملامحه.
في المساء، عادت وصال. هذه المرة كانت تحمل شيئًا ملفوفًا بقطعة قماش ناعمة بلون باهت، كأنّه خرج من زمنه هو، لا من زمنها.
وضعته بهدوء على سريره، نظرت إليه بعينين تعوّدتا على الغياب، ثم همست:
"ظليت محتفظة فيها… ما أدري ليه."
فتح القماش ببطء، كمن لا يريد أن يرى بسرعة، كمن يعرف أن ما بداخله ليس شيئًا، بل بُعدٌ آخر.
كانت ساعة.ساعته.قديمة. ميتة. عقاربها لا تتحرك، لكن فيها أثرًا… لا يُشبه الذكرى، بل يُشبه ظل الزمن.
لم يُعلّق.لم يسأل عن الوقت الذي توقفت فيه.لم يتساءل إن كانت لا تزال تعمل.بل فقط ضمّها إلى صدره كما يُضمّ شيءٌ لا تريده أن يعود، ولكنك لا تطيق أن تفقده نهائيًا.
كان يشعر، لأول مرة، بشيء يسكن فيه.لا فكرة.لا حدث.بل إحساس خام… كأن قطعة مفقودة من روحه عادت لتجلس في مكانها دون ضجيج، دون شرح.
تلك الليلة، لم ينم كعادته.بل ظلّ مستيقظًا بجسدٍ متعب وروح لم تستوعب بعد أنها حيّة.كان ينظر إلى السقف، ويتخيل أنه سماء أخرى، سماء لا يراها أحد سواه، تتسع كلما تذكّر شيئًا، وتضيق كلما فكر بما ينتظره خارج هذا السرير.
خارج هذا الجدار.
خارج الغرفة.
كان يدري أن العالم لم يتوقف، وأن الحياة لم تنتظره.لكنه، وبطريقة لا يعرف كيف وُلِدت فيه، لم يشعر بالغضب.بل بشيء آخر… مزيج من الرغبة في الفهم، والحذر من أن يُحبّ شيئًا من جديد.
هو الآن رجل بلا ماضٍ فعال، وبلا مستقبل معلوم…رجل يستيقظ بعد جنازته، ويرى كل شيء بعين من يعرف أن لا شيء يمكن استرجاعه، لكنه رغم ذلك…لا يزال ينظر.
وهذه، وحدها، كانت تكفي ليشعر أنه لم ينتهِ.
المدينة التي لا تعرفه
خرج في صباح رمادي لم يطلبه. لم يكن الصباح باردًا ولا دافئًا، فقط محايد، كأنه لا يريد أن يمنحه أي شعور مجاني، كأن المدينة قررت أن تستقبله بلا احتفال، بلا عزاء.كان جسده لا يزال هشًّا، لكنه قادر على المشي… خطوة تجرّ خلفها ذكرى، وأخرى تبحث عن معنى.كل شيء في الخارج بدا كأنه أسرع منه. الهواء، الأصوات، حركة السيارات، حتى الأضواء… كانت تومض بطريقة تشعره أنها لا تخصّه، لا تراه، ولا تعترف به.
السيارة التي أقلّته من المستشفى لم تكن سيارة أحلام، بل وسيلة عبور من مكان لم يعُد يريد البقاء فيه، إلى مكان لا يعرف إن كان سيحتمل زيارته. السائق لم يتحدث. و"هو" لم يرد الحديث. كلاهما يعرف أن في الصمت أحيانًا ما لا تقوله أي كلمات.
حين اقترب من الحي، لم يتعرف عليه مباشرة.الأشجار التي كانت صغيرة كبرت، الأرصفة ضاقت، والبيوت التي كانت تشبه بعضها، صارت تُشبه الزمن الذي مرّ فوقها.لم يعد هناك صدى لأصوات الجيران، ولا ظلال للناس الذين كان يعرف وجوههم دون أسمائهم.كل شيء بدا كأنه تخلّى عن الماضي باقتناع، كأنه لا يشعر بالذنب لأنه استمر.
ثم وصل إلى العمارة.نفس المدخل. نفس البلاط الباهت. نفس الرائحة الخفيفة التي تجمع بين الغبار والماء القديم.أخرج المفاتيح. كانت في كيس صغير أعطته له وصال دون تعليق. قالَت فقط: "احتفظنا فيها… ما حبيت أحد يدخل غيرك."
فتح الباب.لم يتردّد.لكن الباب، رغم أنه انفتح بسلاسة، لم يعرفه.كأن المفتاح يعمل، لكن المكان لا يعترف بالداخل.
دخل.
الهواء كان ساكنًا، متراكمًا، لا يتحرك، كأنه لا يريد أن يُستفَز.الأثاث كما هو، أو هكذا بدا له. نفس الكراسي، نفس الطاولة الخشبية التي كان يحب أن يقرأ عليها، نفس الستائر التي نسيت الشمس شكلها.
لكن كل شيء فقد معناه.الكرسي لم يعد للجلوس.الطاولة لا تصلح إلا لتكديس الوقت.والستائر… صارت تغطي نافذة لا تُطل على شيء.
لم يتفحص المكان بعين الباحث عن الذاكرة، بل بعين الغريب الذي يدخل بيتًا يشبه بيته.فتح خزانته…وجد قميصًا كان يحبه، لونه كما هو، لكن ملمسه تغيّر. لم يعد يحمل دفء الأيام التي ارتداه فيها، بل صار يشبه جلدًا غريبًا، لا ينتمي.
وفي الدرج، وجد صورة قديمة.راكان، بأسنانه الصغيرة، يضحك، وهو يرتدي كنزة زرقاء لم يكن يحبها.
أخذ الصورة.لم ينظر إليها كثيرًا. فقط ضمّها كما ضمّ الساعة.كأن الأشياء القديمة حين تُحتضن، لا تُستعاد، بل تُعتذر منها.
ثم جلس.لم يشأ أن يجلس على الكرسي.الأرض كانت أقرب، أصدق، وربما أحنّ.الأرض لا تدّعي أنها تعرفك، لكنها تستقبلك دون شروط.
جلس هناك، قرب الباب، يحدّق في الصمت.
مرّت دقائق، أو ساعات، لا يدري.ثم تحرّك.ببطء، كأن الحركة نفسها قرار ثقيل.
جلس عند الطاولة، أخذ ورقة بيضاء من دفتر قديم، وكتب بقلم لا يذكر متى اشتراه:
"أنا هنا… إذا أردت أن تعرفني، أو لا. – أبيك."
كتبها كأنّه لا يكتبها.كأنّها خرجت منه بلا عناء، بلا ترتيب.ثم أرسلها. رسالة قصيرة إلى رقم لا يعرف إن كان ما زال يعمل، لكنه أرسَل.
ثم عاد إلى الأرض.نام على جنبه كمن يلتفّ على روحه، ولم يطلب من الليل شيئًا سوى أن يمرّ.
في اليوم التالي، لم يحدث شيء.ولا الذي بعده.
ثم جاءه اتصال.
صوت غريب.عميق.متردد.
"راكان؟"
"إيه…"
"أنا…"
"أدري."
كانت تلك الكلمة وحدها كفيلة أن تفتح نافذة في القلب لا تفتح على هواء، بل على فراغ واسع.
ثم قال الشاب بصوت لا يحمل حزنًا، ولا فرحًا… بل فقط "واقع":
"أنا مشغول كثير… بس نقدر نشوف بعض."
لم يسأله متى، ولا أين.قال فقط: "تمام."
ثم أغلق الهاتف…وعاد إلى مقعده القديم…ينظر إلى المرآة، لا ليرى وجهه، بل ليرى الغياب الذي يسكن وجهه.
عمرٌ لا يُختصر بلقاء
كان الموعد عند الخامسة. لم يكن الوقت مهمًا، لكنه ظلّ يراقب الساعة طوال اليوم… رغم أنها لا تعمل. كان يرتديها على معصمه كأنّها تُشعره بأن الزمن، ولو اختلّ، لا يزال يملك شكلًا يمكن التظاهر بالثقة فيه.خرج قبل الموعد بساعة، لا لأنه لا يعرف الطريق، بل لأنه لا يعرف نفسه وهو ذاهبٌ إلى هناك.كل خطوة كانت ترددًا، وكل تردّد كان اعترافًا خافتًا بأنه لا يعرف كيف يكون أبًا بعد هذا الغياب.
وصل إلى المبنى.واجهة زجاجية، أبواب تدور دون أن تطرق، موظفون يمشون بسرعة، وجوه لا تنظر، ومكاتب مكدّسة بالمهام لا بالقصص.
قال الموظف: "تفضل، راكان ينتظرك."
"راكان ينتظرني"… الجملة وحدها كانت كافية لتسقط على قلبه كسؤال، لا كطمأنينة.هل حقًا ينتظر؟أم أن هذا اللقاء مجرد بند يُنجز ثم يُغلق، كرسالة رسمية تقتضي الردّ؟
دخل.المكتب صغير، مرتب، فيه نبتة خضراء في الزاوية كأنها محاولة لتليين برودة المكان، ولو بنية لا تُذكر.
كان هناك.
جالسًا خلف مكتب، بجهاز محمول مفتوح، وهاتف في وضع صامت، وقلم يدور بين أصابعه.
رفع رأسه حين دخل.
لم تكن الدهشة في عينيه.بل الثبات.
ثبات يشبه الثبات الذي رآه في عيني وصال قبل أيام…لكن هنا، كان الثبات خاليًا من الحنين.
نهض.صافحه.جلَسا.
لم يكن هناك عناق.ولا حتى ارتباك ظاهر.
كان هناك رجلان، أحدهما أبٌ لا يعرف كيف يبدأ، والآخر ابنٌ لم يتعلّم كيف يُكمل حكاية لم يبدأها.
تأمّله سرمد بصمت.كان يقرأ ملامحه كما يُقرأ وجه قديم تغيّر بفعل الغياب.الأنف كما هو.العينان فيهما شيء منه.لكن الروح؟لا تشبهه…تشبه رجلًا آخر، رجلًا تكوّن دون ظله، دون صوته، دون حكايات ما قبل النوم.
قال بصوت خافت:
"تحس إنك تكرهني؟"
هزّ راكان رأسه. لم يتردد، لم يغضب، لم يُظهر حزنًا. فقط قال بصوت مستقيم، لا يحمل عداء ولا مودة:
"لا… بس ما أعرفك."
الجملة خرجت مثل سهم بلا ريش. مستقيمة، مباشرة، لا تتوقف في الطريق.
وسرمد… لم يتألم كما توقع.بل أحس بشيء من الصدق يقرص قلبه برفق.ربما لأن الجواب لم يكن قسوة… بل حقيقة.
لم يُدافع.لم يشرح.لم يقل: "أنا كنت في غيبوبة، لم أختر أن أغيب".لأنه يعرف أن الغياب، حتى حين يكون خارج الإرادة، يترك أثره على من بقي.
سأله راكان بعدها عن حاله، عن وضعه الصحي، عن احتياجاته.أسئلة كانت تشبه تلك التي تُطرح في سياق العمل لا في سياق الدم.
ثم انتهى اللقاء دون أن يشعر أحدهما بأنه ابتدأ.
صافحه ثانية.قال له: "أنا مشغول كثير، بس إذا احتجت شي، كلمني."
وغادر.
وسرمد… خرج من المكتب لا يحمل خيبة، بل يحمل حقيقة تشبه الجاذبية:لا أحد يعود كما كان.لا الأب يعود أبًا، ولا الابن يعود طفلًا، ولا الزمن يُعيد ترتيب دفئه لأجل أحد.
عاد إلى شقته، يحمل الصمت كأنه حقيبة ثقيلة.لم يكن فيه حزن ظاهر، بل ثقل ناعم، كمن يمشي على أرضٍ يعرفها جيدًا، لكنها لم تعد تعرفه.
دخل، خلع حذاءه، جلس على الأرض.ثم نظر إلى المرآة.ولأول مرة، لم يبحث عن ملامحه.بل عن الغياب الذي تسكنه ملامحه.
فتح دفترًا، وكتب:
"لم أمت… لكن أحدًا لم يكن ينتظرني حيًّا.كل الذين أحبّوني… أحبّوا ذاكرتي.أنا رجل يعيش بعد جنازته، ولا يعرف كيف يكتب سطرًا جديدًا."
لم يُفكّر بما كتبه.مزّق الورقة.فتح النافذة، وألقاها.
تابعها وهي تسقط…ورأى في سقوطها شيئًا من نفسه.
الحب الذي بقي هناك
في صباح خالٍ من المعنى، كما أغلب صباحاته منذ عاد، نهض وهو لا ينوي شيئًا.لكن الخطوة قادته دون مقدمات، كأنها تعرف الطريق حين يتردد هو.كأن شيئًا داخله قرّر أخيرًا أن يواجه ما ظلّ يؤجّله منذ أن فتحت وصال النافذة الأولى نحو ما كان.توضّأ بالماء البارد، كأنّه يغسل عن روحه شكًّا خافتًا، وارتدى قميصًا لم يلبسه منذ العودة… القميص الذي ظلّ في خزانته كما تُرك، محايدًا، بلا رائحة، بلا ذكرى واضحة، لكنه اليوم بدا وكأنّه يعرف الطريق قبله.
ركب سيارة أجرة، لم يضبط عنوانًا واضحًا، فقط أعطى السائق وصفًا يشبه ذاكرته: "البيت اللي عنده شجرة سدر كبيرة، والبلاط الخارجي لونه أزرق باهت."ولم يسأله السائق شيئًا.
حين اقترب، رأى البيت من بعيد كما لو أنه يقترب من حلم قديم… أو من ظلّ ظلّه.
الواجهة كما هي، لكنها شحبَت.الشجرة نَمَت، لكن أوراقها لم تعد تعبّر عن الفرح كما كانت.كل شيء بدا مألوفًا… ولكن بلونٍ رماديّ لا تصنعه العيون، بل تصنعه المسافة الطويلة بين القلب والزمن.
طرق الباب بلطف.لم يتردّد.لم يكن خائفًا، بل فقط مُجرّدًا من التوقعات.
فتحت هي.
مها.
لم تتغيّر كثيرًا…ملامحها كما يتذكّرها، لكن العينين لم تعودا له.فيها نضج امرأة اعتادت أن تزرع حياتها دون انتظار موسمٍ لم يأتِ.وفي وقفتها… ما يشبه الاعتذار، لكن بلا كلمات.
قالت بصوت مفاجئ في هدوئه:
"سرمد؟"
أومأ برأسه.
تراجعت قليلاً، فتحت الباب.
دخل.
لم يتحدثا مباشرة.البيت كان كما هو تقريبًا، لكنه خسر بعض دفئه… كأن الأثاث نفسه قرّر أن يتوقف عن تذكّر الذكريات.
جلس على الكرسي الخشبي الذي كان يجلس عليه دائمًا.نفس الموضع.نفس الطاولة.لكن الكوب الذي قُدّم له كان جديدًا.
قدّمت له شايًا.
جلسا.
الصمت لم يكن ثقيلاً، بل عميقًا، واسعًا، كأنّ كل كلمة تُقال كانت ستخدش شيئًا نبتَ في الداخل واعتاد على الصمت كي يعيش.
ثم قالت، بصوت لا يحمل ملامة ولا حزن، بل فقط حقيقة:
"أنا آسفة…ما كنت أعرف كيف أرجع بعد كل هالسنين."
هزّ رأسه بهدوء.لم يكن يريد منها شيئًا.ولا منها ينتظر.قال وهو ينظر إلى بخار الشاي:
"ولا أنا."
تنفّست.
ثم قالت:
"بكيتك كثير… بس الزمن ما وقف.كنت أحاول، كل فترة… بس ما كنت أعرف هل أنت تسمعني، تحسّ فيني، ولا بس نايم."
رفع عينيه ببطء، ثم همس:
"كنت نايم… بس ما كنت بعيد.بس أحيانًا الغياب يكون أهدأ من الحضور المكسور."
سكتت.ثم ابتسمت بحزن، كأنها تسمح للدموع القديمة أن تمرّ عبر الابتسامة:
"كنت أحبك كثير… بس حبك بقى هناك.في المكان اللي تركتني فيه."
أومأ برأسه من جديد.لا إنكار.لا عتاب.قال:
"ما ألومك.لو كنت مكانك… ما انتظرتني."
سكتا.
ثم سأل، دون أن يلتفت:
"تزوجتِ بعدي؟"
هزّت رأسها.
"لا.ولا أدري إذا كان السبب أنك ما متّ…ولا لأني ما قدرت أحب أحد غيرك، بس مو بنفس الطريقة."
قال:
"الحب ما يموت… بس أحيانًا ما يعرف الطريق يرجع.وأحيانًا يرجع، بس يلقى الباب مسكّر."
ابتسمت.
ثم سألته عن صحته.أجاب.
وسألها عن العمل.أجابت.
حديث عابر، لكن خلف كل جملة… كانت ذاكرة تمشي على رؤوس أصابعها، لا تريد أن توقظ شيئًا.
حين قام ليغادر، لم يكن في عينيه دموع، ولا في خطواته تردّد.
خرج… أخفّ من أول، لا لأنه ارتاح، بل لأنه تخلّى عن وهمٍ صغير كان يسكنه.وهم أن الماضي قد يعود كما كان.
وقف على عتبة الباب، التفت إليها، أراد أن يقول شيئًا، لكنه لم يفعل.
فهمَت.
ابتسمت.
وأغلق الباب بهدوء.
نزل الدرج ببطء.خرج من الحيّ دون أن ينظر خلفه.لأن الأشياء التي نغادرها عن وعي… لا تحتاج إلى وداع.
بداية في منتصف كل شيء
استيقظ في صباح رمادي لا يُشبه الصباحات المتفائلة، ولا تلك الحزينة… بل تلك التي تأتي بهدوء، كأنها تقول لك: أنا هنا، دون أن أطلب منك شيئًا.نهض من سريره، لا على عجل، بل بخفة رجلٍ لم يعد يحمل أكثر مما يستطيع.غسل وجهه بالماء البارد، كما لو أنه يغسل ذكرى، أو يهيّئ جلده لاستقبال يوم لا يحمل توقّعًا.ارتدى قميصه القديم دون أن يسأل نفسه إن كان يليق به، ولفّ ساعته حول معصمه… رغم أنها لا تعمل، ورغم أنه لم يعد يتساءل كم الوقت.
خرج يمشي، دون وجهة، دون هدف، فقط ليُجرّب أن يكون في الخارج دون أن يهرب من الداخل.المدينة كانت كما تركها آخر مرة…باردة، مشغولة، لا تعتذر عن التغيّر، ولا تهتم بمن فاته الركب.لكنه اليوم لم ينتظر منها شيئًا.بل فقط كان يُريد أن يمشي، أن يشعر بالأرض تحت قدميه، أن يعرف أنه موجود، لا في الذكرى، بل في اللحظة.
وصل إلى حديقة لا يعرف اسمها.كان بها مقعد خشبي تحت شجرة متعبة من الخريف، أوراقها نصفها على الأرض، ونصفها لا يزال يقاوم السقوط.
جلس.
نظر أمامه…فرأى طفلًا صغيرًا يركض خلف فراشة، يضحك…ضحكة لا تُشبه ضحكة أحد، ولا تقلّد أحدًا، ضحكة بريئة، نقيّة، صادقة، كما يجب أن تكون الضحكات الأولى.
تأمّله طويلًا.كان الطفل يركض دون أن يعرف ما إذا كان سيلتقط الفراشة، وربما لم يكن يريد أن يلتقطها أصلًا.فقط يُريد أن يلاحق شيئًا جميلًا، متحرّكًا، حرًا…
ولم يعرف سرمد لمَ ابتسم.
ابتسامة خفيفة، دافئة، لا تشبه أيٍّ من ابتساماته القديمة.ابتسامة من يعرف أنه لن يعود، لكنه ليس مطالبًا بالرجوع.من يعرف أن الحب القديم، والابن البعيد، والمدينة المتغيرة، والوجه الذي في المرآة…كلّها حقائق لا تُمسح.
لكنه رغم كل ذلك… لا يزال قادرًا أن يكتب شيئًا.
أخرج دفترًا صغيرًا من جيبه، هو نفسه الذي احتفظت به وصال ذات مرة.فتحه.
كتب:
"الحياة لا تعود…لكنني أنا من يستطيع أن يبدأ،ولو في منتصف كل شيء."
تأمّل الكلمات، لا ليراجعها، بل ليُصدّقها.
وفي المساء…عاد إلى شقته.دخلها دون ثقل.جلس قرب النافذة، أغلق الأنوار، وترك المدينة تضيء له الظلّ.
ثم، وفي صمتٍ يشبه الصلاة، همس لنفسه:
"لم أعد أبحث عمّا كان…فقط أريد أن أعيش ما هو.لا كمن يسترجع…بل كمن يُولد متأخرًا، لكنه لا يزال يستحق الحياة."
وابتسم.
ابتسامة لم تُرَ… لكنها بقيت.

سعد العجمي
سعد العجمي، كاتب سعودي مهتم بتفكيك التفاصيل اليومية من منظور إنساني وفلسفي. أكتب لأعيد تشكيل الأسئلة القديمة بصوت جديد، وأؤمن أن الكلمة ليست وسيلة للشرح فقط، بل أداة لاكتشاف الذات وتفهم الآخر. أتناول في مقالاتي قضايا الحياة، العزلة، العلاقات، والهوية، بلغة صادقة بعيدة عن التنميق، وقريبة من نبض الإنسان.