
الحمد لله الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأودع في قلبه نور البصيرة، وجعل له في الإدراك بابًا إلى الفهم، وفي التغافل طريقًا إلى السلام.وصلاة وسلامًا على من قال: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--
الحياة بحرٌ واسع، تموج فيه التفاصيل والأحداث والناس والمشاعر، وكلّ إنسانٍ يختار طريقة السباحة فيه.منهم من يراقب كل موجة، ويحسب كل قطرة، ويُتعب نفسه بتفسير كل حركة، ومنهم من يتعامل معها ببساطةٍ واتزانٍ فيمرّ عليها مرور الكرام.والفرق بين الاثنين ليس في الذكاء، بل في الحكمة.
الحكيم يدرك متى ينتبه، ومتى يتغافل.يعرف متى يتدارك الخطأ، ومتى يتركه يمضي دون جدال.فما أجمل أن يتعلّم المرء هذه المعادلة الصعبة:أن تدرك حين يلزم الإدراك، وتتدارك قبل فوات الأوان، ثم تتغافل حين لا ينفع التدقيق، ولا تُدقق فيما لا يُصلح التدقيق.
---
الإدراك: بداية الوعي وبصيرة القلب
الإدراك هو أول درجات الفهم، وهو أن ترى الحقيقة كما هي، لا كما تودّ أن تكون.هو الوعي بالواقع، والقدرة على قراءة ما حولك بعينٍ بصيرةٍ لا بعينٍ ناقدةٍ متعجّلة.فمن لا يُدرك يظلّ في غفلةٍ، ومن يُدرك بزيادةٍ يتحوّل إلى قلقٍ دائم.
الإدراك ليس أن تلاحق كل شيء، بل أن تعرف ما يستحقّ الملاحقة.هو أن تفهم الناس بقدر ما تحتاج، وتفهم نفسك أكثر مما تظن.فمن عرف نفسه، عرف مواضع ضعفه، وأدرك حاجته إلى الإصلاح، فبدأ بتداركها.
ولذلك قيل: “الإدراك أول أبواب النجاة.”إذ لا يمكن للإنسان أن يتدارك ما لا يشعر بوجوده، ولا أن يُصلح ما لا يعلم أنه مكسور.فالإدراك وعيٌ قبل الفعل، وإشارةُ تنبيهٍ من الله إلى العبد: انتبه، فهنا خلل، وهناك فرصة.
---
تدارك: فعلُ الحكيم قبل أن يفوت الأوان
حين تُدرك، لا تقف عند الإدراك وحده، بل انتقل إلى الفعل.التدارك هو الخطوة الثانية بعد الوعي، وهو أن تبادر إلى إصلاح ما أدركت خلله.كم من أناسٍ يدركون أخطاءهم لكنهم لا يتحركون، فيتراكم الندم بعد فوات الأوان.
التدارك ليس ضعفًا، بل شجاعة.أن تعترف بخطئك يعني أنك أكبر من الخطأ.وأن تبادر إلى تصحيح مسارك يعني أنك تفهم معنى الحياة.
كم من علاقةٍ انقطعت لأن أحدهم لم يتدارك كلمةً قاسية!وكم من فرصةٍ ضاعت لأن صاحبها لم يتدارك تقصيره في وقتها!وكم من قلبٍ انطفأ لأننا رأينا ضعفه وأدركنا حاجته، لكننا لم نتداركه بل تركناه يذبل في صمت!
التدارك فعلُ من يحب، ومن يخاف الله، ومن يقدّر النعمة قبل زوالها.فإذا أدركت أن فيك عيبًا، فتداركه بالتوبة.وإذا أدركت أن بينك وبين أحدٍ سوء فهم، فتداركه بالاعتذار.وإذا أدركت أنك قصّرت في عبادةٍ أو حقٍّ، فتداركه بالرجوع.ولا تقل “فات الأوان”، فالأوان لا يفوت ما دام القلب حيًّا.
---
ثم تغافل: أدب الكبار وراحة العقول
بعد الإدراك والتدارك، تأتي المرحلة التي تُظهر نضج الإنسان وسعة صدره: التغافل.والتغافل ليس جهلًا، بل حكمة.هو أن ترى الخطأ وتعرفه، لكنك تختار السكوت لأن إصلاحه لا يثمر إلا وجعًا أو فتنة.أن تتجاوز زلةً صغيرة، لأن قلبك أكبر من أن يثقل نفسه بها.
قالوا: “العاقل نصفه تغافل، ونصفه إحسان.”فكم من بيتٍ تهدّم لأن الزوجين لم يتغافلا!وكم من صداقةٍ انقطعت لأن أحدهم دقّق في كل كلمةٍ ولحظة!وكم من قلوبٍ امتلأت بالضغائن لأنها لم تتعلم فنّ التغافل!
التغافل ليس ضعفًا ولا سذاجة، بل هو ضبط النفس عن الغضب، وحفظ الكلمة من الانفلات.هو اختيار الهدوء على الجدال، والسكوت على الشجار، والصفح على التتبع.هو أن تزن الأمور بميزان الحكمة: أيّهما أنفع، المواجهة أم السكوت؟فإن كان الكلام يُصلح، فقل، وإن كان يُؤذي، فاصمت.
من تغافل عاش أهدأ، ومن دقّق في كل شيءٍ عاش أشدّ تعبًا.ولذلك قال أحد الحكماء: “ليس كل ما يُعلم يُقال، ولا كل ما يُقال يُجاب.”
---
ولا تدقق: لأن التفاصيل قد تقتل المعنى
الدقّة المفرطة في كل أمرٍ لا تُنتج إلا القلق.فمن يُدقق في كل لفظةٍ يسمعها يتعب، ومن يُحلّل كل تصرّفٍ يراه يرهق نفسه.الحياة لا تُفهم بالعدسة المكبّرة، بل تُعاش بالعين الواسعة التي ترى الجمال رغم النقص.
التدقيق الزائد يجعلك تفسّر الناس بأسوأ الظنون، وتفقد لذة العفوية والبساطة.فكم من سوء فهمٍ كان سببه “تحليل كلمة” قيلت بلا قصد!وكم من خصومةٍ اشتعلت لأن أحدهم دقق فيما لو تركه لمرّ بسلام!
الحياة ليست معادلة رياضية، بل رحلة بشرية فيها الهفوة والتعب والاختلاف.فمن أراد الكمال في كل شيء، عاش ناقصًا في راحته.ومن أراد أن يُراقب كل خطأٍ صغير، ضاع عنه الخير الكبير.
احفظ هذه القاعدة لنفسك:
> “ليس كل ما يُرى يُناقش، ولا كل ما يُسمع يُحاسب.”فأحيانًا يكفي أن تبتسم وتمضي.تلك الابتسامة هي تغافلك، وذاك المضيّ هو نضجك، وذلك السكوت هو إدراكك الحقيقي.
---
بين الإدراك والتغافل توازن النفس
الإدراك بلا تغافل يُنتج التوتر، والتغافل بلا إدراك يُنتج الغفلة.والكمال أن تجمع بينهما بميزانٍ دقيق.أن ترى بعين العقل، وتصفح بقلبٍ واسع.
الإدراك يمنحك البصيرة، والتغافل يمنحك السلام.وحين يجتمعان، يولد منهما الاتزان.فلا تكون ممن لا يرى شيئًا، ولا ممن يرى كل شيءٍ حتى يعجز عن العيش.
الحكيم هو من يعرف متى يفتح عينه، ومتى يغمضها.يرى الخطأ في الوقت المناسب ليُصلحه، ويتغافل في الوقت المناسب ليحفظ الودّ.وهذا هو سرّ الراحة في التعامل مع الناس.
---
تربية النفس على هذه المعادلة
هذه المعادلة: “أدرك فتدارك، ثم تغافل ولا تدقق” تحتاج إلى تدريبٍ للنفس، لا إلى فهمٍ فقط.فمن طبائع البشر أنهم إما مفرِطون في الملاحظة، أو مفرِطون في اللامبالاة.لكن النفس المتوازنة تعلّمت أن تختار موضع كل موقفٍ بدقةٍ ورفق.
ابدأ بتربية نفسك على ثلاث خطوات:
1. راقب ولا تحكم.حين ترى خطأً، لا تتسرع بالحكم، بل أدركه أولًا وتبيّن.فكم من ظنونٍ أفسدت علاقات لأنها بُنيت على عجلةٍ لا على إدراكٍ حقيقي.
2. ابادر ولا تندم.إن أدركت تقصيرًا منك، فتداركه فورًا.لا تنتظر أن يعتذر الوقت عنك.فالكلمة الطيبة اليوم خير من الندم غدًا.
3. اصفح ولا تلاحق.إذا تجاوزت خطأً صغيرًا، فلا تذكّره، ولا تلمّح إليه لاحقًا.فالتغافل لا يكتمل إلا بالنسيان الطيب.
---
ثمرات من يعيش بهذه القاعدة
من يعيش بهذه القاعدة البسيطة ينال راحةً في قلبه لا يعرفها المتدققون.
يعيش بسلامٍ مع نفسه، لأنه لا يجلدها على كل تفصيل.
ويعيش بودٍّ مع الناس، لأنه لا يُفتش في نياتهم ولا يحمّلهم فوق طاقاتهم.
ويعيش بعلاقةٍ أعمق مع ربه، لأنه أدرك أن الستر والصفح من صفات الله التي يحبّ أن يتخلّق بها عباده.
إن التغافل لا يعني أن تكون غافلًا، بل أن تكون أرحم.وأن تدرك أن الناس ليسوا ملائكة، وأنك لست معصومًا.فإذا سامحت غيرك، سامحك الله بأوسع مما غفرت.وإذا تركت التدقيق في هفواتهم، ترك الله التدقيق في زلاتك.
---
في التعامل مع القريبين
الأقربون هم أكثر من نحتاج أن نطبق معهم هذه القاعدة.في البيت، في الصداقة، في العمل.فكثرة العشرة تُظهر العيوب، ولا يثبت الودّ إلا بالتغافل.قد ترى من زوجك أو صديقك ما يضيق صدرك، فإن كنت كلما رأيت عيبًا حاسبت، فلن يبقى لك أحد.
التغافل هنا ليس تجاهلًا، بل حفاظًا على المودة.فمن أحبّ أحدًا بصدق، تغافل عن نصف ما يرى، واعتذر عن النصف الآخر.ولو دقق كل واحدٍ منا في أخطاء الآخر، لتقطعت أواصر القلوب.
---
في العمل والمجتمع
في بيئة العمل، الإدراك ضرورة، والتغافل مهارة.فمن أدرك التقصير أصلحه، ومن تغافل عن الصغائر حفظ روح الفريق.أما من دقّق في كل تفصيلٍ ليُثبت أنه الأذكى، خسر محبة الناس وثقتهم.القائد الحكيم هو من يرى الخلل دون أن يُحرج، ويُصلح دون أن يُفضح.
وفي المجتمع، من أراد السلام فليتغافل.لا تتابع كل تصرفٍ للناس، ولا تزنهم على ميزانك وحدك.فلكلّ إنسانٍ ظرفه، ولكلّ كلمةٍ نية، وليس كل ما يُقال يُقصد.فأرحم نفسك من التحليل المفرط، وستجد أن الحياة أبسط مما ظننت.
---
حين تتغافل، أنت تختار الهدوء على الصواب الكامل
كثيرون يظنون أن التغافل تنازلٌ عن الحق، لكنه في الحقيقة اختيارٌ للسكينة على الجدال.أحيانًا تكون على حق، لكن الدفاع عنه يستهلك طاقتك ويهدر وقتك.فاختر أن تكون هادئًا على أن تكون دائم الانفعال.السكوت في موضعه قوة، والتغافل في موضعه نُبل.
---
بين العقل والقلب ميزان الحكمة
في النهاية، “أدرك فتدارك ثم تغافل ولا تدقق” ليست مجرد كلمات، بل أسلوب حياةٍ متوازن.أن تعيش بإدراكٍ يبصّرك، لا بتدقيقٍ يرهقك.أن تتدارك خطأك حين تعلمه، ثم تمضي برحمةٍ لا تبحث فيها عن الكمال.أن تكون حاضر القلب، لكن خفيف الحكم.
من عاش بهذه القاعدة، عاش مطمئنًا، قليل الصراع، كثير الرضا.يرى الجمال قبل القبح، والنية قبل الخطأ، والحكمة قبل الغضب.
فلتجعل شعارك في كل يوم:أدرك فتدارك، ثم تغافل ولا تدقق أدرك ما حولك بعقلٍ واعٍ، تدارك ما تستطيع، ثم تغافل بكرم، ولا تُدقّق إلا فيما يرفعك.

