سعي الانسان للخلود وارهاق البقاء
في تجمع مع الأصدقاء طرح أحدهم سؤال وطلب بأن تكون اجاباتنا بكل صدق وصراحة، إذا خُيّرت بين الفناء والخلود من فيهم تختار!!.. اختلفت اختياراتنا بين من قال الفناء والزوال وكنت أنا منهم، وبين من اختار القاء والخلود، ووجد الصديق فيمن قال الخلود أكثر صراحة وجرأة على الاعتراف برغبة البشر الطبيعية في أن تكون حياتهم بلا نهاية.
رغم أنني لم أستطع تغيير رأيي، لكن ذلك لا يمنع أنه على حق، الانسان منذ بداية الخلق وهو يبحث عن الخلود، وكان السبب في خروج آدم وحواء من الجنة؛ فيقول تعالى في سورة الأعراف "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ"، وأظن من يوم هبوط الانسان على الأرض وهو يبحث عن الخلود، وقد هداه تفكيره وفلسفته إلى تحقيق الخلود بطرق مختلفة.
اشكال الخلود

يقول أحمد شوقي "والنفس ترجو همة الخلود في العلم والبنيان والمولود" ..
دائمًا ما كان المعنى الشعبي للخلود استمرارية بقاء الانسان جسدًا وروحًا على قيد الحياة بلا موت حتى نهاية الزمان والخلق، ولأن الانسان يعي بأن ذلك دربًا من الخيال والأساطير لا يمكن تحقيقه، ففي ملحمة جلجاميش رغم سعيه للوصول لثمرة الخلود، يكتشف في النهاية أن الموت نصيب البشر والأبدية للآلهة فقط.
وعلى ذلك فقد استطاع الانسان أن يلتمس الخلود بشكل بيولوجي في بقاءنا في اشخاص أبنائنا واحفادنا وأبناء احفادنا، وهي استمرارية وليس بقاء بالمعنى الذي يرجوه الانسان، أو بطريقة أخرى رمزية في ذكريات أسرتنا وأصدقاءنا، أو في ذاكرة التاريخ من خدمات وانجازات علمية وفنية وإنسانية يحققها الفرد للمجتمع والبشرية.
ويذهب الانسان لأبعد من ذلك لتحقيق الخلود في العصر الحديث، ليس فقط بتطويره للطب وإيجاد علاج للأمراض ونقل الأعضاء، ولكن تعمل البشرية الآن على تطويع التكنولوجيا لحفظ وعي الانسان وهويته رقميًا، ونقل ذكرياته وأسلوب تفكيره إلى التكنولوجيا لحفظ وعي الانسان وهويته رقميًا، ونقل ذكرياته وأسلوب تفكيره إلى الكمبيوتر، حتى نتمكّن بعد وفاة شخص ما من محاكاة وتقليد تفكير وسلوك وقرارات الشخص بدقة عبر الذكاء الاصطناعي (AI) وعمل روبوت يشبه هذا الشخص لكي يمكن إحياؤه مرة أخرى بعد موته، لأن الجسد يظل فاني، العقل والوعي فقط يتوقعون قدرتهم
الخلود في الديانات

ي بيت شعر لإليا أبو ماضي يقول "لا خلود تحت السماء لحي .. فلماذا تراود المستحيلا"
أما في الديانات الوضعية أو السماوية اتخذ الخلود شكل روحي؛ ففي الديانات الشرقية مثل البوذية والهندوسية، انتشر اعتقاد التناسخ وحلول الأرواح بعد الموت في أجسام أخرى، تحقيقًا للعدل على ما قام به الانسان من عمل صالح أو سيئ.
وكان الشائع بين شعوب العالم القديم الاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت؛ تصوّروا في بلاد الرافدين أن الانسان إذا مات، انتقل إلى العالم السُفلي لا فرق بين من كان صالح في الحياة الدنيا، ومن كان مجرم، الكل يبقى في عالم الموتى إلى الأبد، أم الخلود من نصيب الآلهة فقط.
الخلود في مصر القديمة لم يكن من نصيب الآلهة فقط، بل أيضًا الملوك باعتبارهم أبناءً للآلهة، وبعد الثورة الشعبية بداية الأسرة الخامسة، بدأ دخول عامة الشعب إلى عالم الخلود بعد الحساب تعود الروح للجسد، وذلك فقط لمن قاموا بأعمال حسنة في الحياة الدنيا، أما أصحاب الأعمال السيئة يُلقى بهم لحيوان خرافي يلتهمهم أي لا خلود لهم.
وعن الفكرة الفلسفية للخلود في الديانات التوحيدية؛ فإن كل البشر فانيين مصيرهم الموت، الخلود يتحقق فقط بعد الموت، إما في الجنة جزاءً على عملك الصالح أو في النار عقابًا على سوء أفعالك، لا خلود بالحياة الدنيا، الأبدية والبقاء للخالق وحده.
عواقب الخلود

ويبقى للخلود سحره، الذي قد لا أؤمن به، ولكن هل كان سعي الانسان للخلود رغبة وغرور منه للتشبه بالخالق والآلهة، تلك القوة التي تجعلك تمتلك عدد لا نهائي من الفرص لتحقيق أهدافك الدنيوية، أم خوف الانسان من فراق من يحب، وذلك الغموض الذي يُحيط بالعالم الآخر.
رغم استمرارية بحث البشر عن الحياة الأبدية؛ فقد أدرك البعض الجانب المظلم من تلك الأمنيّة، فشخصية مثل "نيثونوس" في الأسطورة الاغريقية، مُنح الخلود لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بشبابه، ليصبح الخلود بالنسبة له لعنة تُشعره بالملل والوحدة.
"إن لم نعد إلى الموت فلا مستقبل لنا" ..
مقولة برواية "انقطاعات الموت" للكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو"؛ تحكي الرواية عن مدينة يختفي منها الموت ومع تزايد عدد السكان ومعاناة أصحاب الأمراض وكبار السن، أصبح الموت مطلب ويهرب سكان المدينة إلى المدن المجاورة التي مازال بها موت لكي تنتهي حياتهم، تكتشف في تلك الرواية أن الموت نعمة وضرورة لاستمرارية الحياة، وأن المتعة والراحة في الانتهاء وليست في اللانهائية.
في الخاتمة
في نظري بقاء الانسان واستمرارية حياته إلى ما لا نهاية لا طائل منها، ولكن مع كل مقطوعة موسيقية اسمعها وأغنية أو لحن أدندنه، ومع الانتهاء من قراءة كتاب يزوّدني بفكرة أو قصة، وحين ألمس إنجازات العلماء في الطب والفيزياء والتكنولوجيا وغيرهم من العلوم، ويبهرني القادة والمحررين أصحاب الفكر والمبادئ المدافعين عنها والمتمسكين بها، قد عاشت انجازاتهم وما حققوه للبشرية حتى بعد وفاتهم .. ألم يكن ذلك خلودًا.
كما أننا مازلنا نعيش خلود شعوب وبلدان استطاعت أن تصنع حضارات ويبقى أثرهم في العمارة والفنون والفلسفة، مثل حضارة المايا، والحضارة السومرية وبلاد الرافدين ومصر القديمة والهند وغيرهم.