روايات البؤس …!

نشرت:
وقت القراءة: دقائق

وكأني أحلم وقد عادت بي عجلة الزمن الى الوراء فاتوغل مشدوهاً في العصور الوسطى بازقة الفقر ومواطن الوحل بحواري باريس ولندن التى حدثتنا عنها روايات البوءس السوداء في كلاسيكيات الأدب العالمي ..انتبهت وانا ارتاد مدعواً الى جولة "تحت الارض"في إحدى الاحياء المنسية المتاخمة لابراج الثراء المفاجيء وغسيل الاموال بمدينتي …كان علي أن أعبر الكثير من مشاهد الفقر والبؤس في الحواري الضيقة الرطبة الموحلة التي افترش الفقراء أرصفتها هروباً من الحر الخانق داخل خنادق واخاديد لا آدمية بالايجار لا شقق يسكنونها..وابتلعت صدمتي حتى بلغت هدفي وهناك طرقت باباً قديماً آخر ثم تراجعت قليلاً للوراء..

- السلام عليكم ...رمضان كريم .. الست عواطف موجودة ؟

- لا انا ابنها..

- والوالدة فين؟

- الوالدة.. تعيش انت...!

ارتبكت وتمتمت بكلمات الرحمة والدعاء مودعاً.. وتذكرتها وأنا أغادر مسرعاً يوم احتضنتني في فرح باكية رمضان الماضي وهي عائدة زائغة العينين لتوها من جلسة الغسيل الكلوي.. لم ابتعد عنها تحسباً للكورونا فلم أشأ إحراجها .. هي كأي أم مصرية بسيطة تتفاعل بطيبة وعفوية وتجاوزت صدمة رحيل الست عواطف .لكنها لا تغيب عن ذاكرتي بطيبتها وشحوب وجهها..ومرت ايام صادمة تواصلنا فيها مع الفقراء..!

ثم توالت الانباء المحزنة عن مرضى الأورام والغسيل والأرامل ممن تزدحم بهم قائمة المساعدات في أوراقي ...فقد مر عام آخر حزين وعرفت كيف ماتت صفاء وام حمزه ورجاء زميلات العذاب بالعنبر رقم ٣ غسيل كلوي... "الاميري" .. نعم تجاورن سنوات في محنة الألم وترافقن معاً في رحلة الموت...كما رحلت ام أشرف واغلق للأبد بابها تاركة ابنها المشلول وأطفاله الثلاثة الذي هجرته زوجته عندما سقط مريضاً وفقد وظيفته وضاق به الحال .. وانتهى به المطاف الى شقة ارخص بمدينة المستقبل وفرها له اصحاب الخير..هنا وهناك وتحت وطأة الفقر الشامل الماحق لا تتعجب اذا ما سمعت بقصص القلوب المقهورة التي ماتت فتمردت على الواقع المظلم و مآسي هروب الازواج وهجر الأمهات لفلذات اكبادهن ومصارع الأمومة…!


اقرأ ايضا

    نعم عام مر ورحل في صمت بلا عودة عن قائمتي الكثير من الضعفاء البؤساء من ضحايا التلوث والجوع والحرمان الذين أحببتهم وحفظوا صوتي وعنواني... وكما رأيت من أحوالهم حدثت نفسي مستغفراً ربي وقلت لها معزياً في نبرة تأكيد: كما أرى الموت راحة ومخرج للفقراء في بلادنا !

    وصعد العشرات من الصف الثاني في قائمتي ومعهم عشرات القصص مثل منى .. ثلاثون عاماً روت لي بدموعها قصتها .. فهي زوجة اجير باليومية تغسل الكلى ثلاث مرات في الاسبوع وتدفع ثمن خطأ طبي ادى إلى بتر قدمها..! ومحمود الذي يمشي والضمادات تلتف ولا تفارق رقبته وساعديه .. روى لي كيف اقترض ثلاث الاف جنيه ثمناً لجراحة توصيلة تنقذ حياته بعيادة خاصة بعد ان دمر الغسيل كل اوردته .! ولست ارغب في المزيد من قصص الألم لكم فجعبتي متخمة ومثقلة وحزينة…!

    فقط اروي لكم حكاية الاشقاء الصغار الثلاثة من ضحايا الفشل الكلوي يأتون من المنايف ثلاث مرات اسبوعياً ويستأجرون عربة نصف نقل ذهاباً واياباً وسيصعق قلبك وتختلط مشاعرك مثلي وانت تراهم يغادرون المستشفى كالأشباح بعد كل جلسة غسيل شاحبي الوجوه يتحدثون همساً بصعوبة ويتحركون ببطء ويستندون ويتوكاون على بعضهم البعض في اقسى مشهد يمكن ان تتخيله....!

    حدثت نفسي في مرارة قائلا : ترى لو عاد تشارلز ديكنز أو نجيب محفوظ للحياة وتأملوا ما أرى لخرجوا علينا بأقسى روايات الشقاء الانساني الماً وأوسعها انتشاراً !

    الفقراء المرضى ..سيداتي وسادتي يتوارون كمداً وقهراً خلف الابواب القديمة في مدينتنا الصاخبة التي حدثتكم عنها المرة الماضية او يتشبعون بأمل اخير في الحياة تحت رحمة ماكينات الفشل الكلوي ومضخات الكيماوي وأوعية النووي والاشعاع جاثمة فوق صدور ضحايا الفقر بالمستشفيات المحتضرة وفي الخارج تحاصرهم اشباح المياه الملوثة والغذاء الرخيص المدعم بكل المبيدات ..وهم يقدرون بالمئات في مدينتنا .. ضحايا لليأس والحاجة ومع الأسف معظمهم يتمنون الموت …!

    وحكايات البؤس في كل رمضان لن يتسع الوقت لاسردها لكم ..ولكنها تطاردني بمشاهدها الانسانية المظلمة فلا أملك سوى الحنق والغضب كلما ترامت إلى مسامعي نهار وليالي رمضان مشاهد الانفصام والترف المستفزة بإعلامنا وإعلانات الساحل والجونة واللييك فيو .. تؤكد لك أن المياه الملوثة ليست هي فقط المتهمة فيما أرى من مشاهد المرض والبؤس الجماعي ..بل هي الضمائر الملوثة للنخبة والصفوة التى تخلت عن رحمتها وواجبها في مجتمع التناقض الفج ..مجتمع من امتلكوا كل المال وبرعوا في الجمع ولكنهم جهلوا القسمة...!

    روايات البؤس …!

    س غ

    اقرأ ايضاّ