حوارٌ بين الأرض والقمر

Batool Khalil
مُحبَّة للمعرفة
نشرت:
وقت القراءة: دقائق

في إحدي الليالي أطل القمر بوجهِه كعادته علي القسم الخاص بنا من الكوكب بعدما سلَّمت الشمس المناوبة له ، وفي تلك الليلة كانت المناوبة مملة بشكلٍ غريب للقمر .. لم يكن يتسنّي للقمر قطُّ أن يحدِّث الأرض ، وهذا لأن وجه الأرض كان أشبه بعبّاد الشمس ، فحيث كانت الشمس فالضوءُ والنهار والعمل ووجه الأرض ، بينما القمر فالظلامُ والليل والنوم .. لم يكن يشعر القمر بالملل أبداً لأنه اعتاد علي عدم وجود أنيس يؤنس وحدته ، بل إنه كان يري أن وقت مناوبته هو الأفضل معزِّياً نفسه بأنه ليس مضطراً لرؤية هذه الأعداد الضخمة من البشر كما في مناوبة الشمس ، وحتي لو اضطرّ لرؤية بعض جرائم البشر التي كانت تحدث في جنح الظلام فإنه لازال مقتنعاً أن جرائم النهار وبشاعته أكبر طالما كثُر عدد البشر ..

حوارٌ بين الأرض والقمر

الأرضُ تُحاور القمر ..

" أناوب منذ ملايين السنين ولم أشعر بهذا الملل من قبل " قال القمر متأفَّفاً ، فجاء صوتٌ إلى مسامع القمر : علي الأقل لم يُمْحَشْ (يحترق) سطحُك ، إن كان من متأفِّفٍ هنا فيجب أن يكون أنا لا أنت !

أمعن القمر النظر فإذ بالأرض تحادثه .. بدت الفُجاءة علي أديم القمر فهو لم يطارح الأرض من قبل ، لكنّه لطالما تمني أن تطارحه ، كان القمر يشعر تجاه الأرض بأنها تلك الحبيبة التي تجهل وجود حبيبها بقربها تماماً ، فقد كانت الأرض أمام ناظريْه طوال الوقت لكنه أحرَزَ ومنذ زمن كونها صعبة المنال فهو في النهاية ليس سوي تابع ..

" ما بالك يا رفيق ؟! هل أكل الثقب الأسود لسانك ؟ " وجَّهت الأرض السؤال للقمر ، ارتبك القمر لكنه سرعان ما اصطاد الكلمات من بحر التيه في عقله وأجاب :

أنا فقط مستغربٌ من أنَّكِ موجودة هنا ، يفترض أن تكوني مع الشمس حيث الضوء .


اقرأ ايضا

    فأجابت : ألم أخبرك أن هناك جزءاً من سطحي يحترق ؟!

    إن هذا الجزء هو الجزء الذي تناوب عليه الآن ، ووجهي سيظلُّ موجّهاً تجاه هذا الجزء إلي أن يتكرَّم عليَّ البشر ويخمدوا هذا الحريق وحتي ذلك الوقت فإنّي سأري الشمس فقط في وقت مناوبتها هنا ، ويبدو أنه لا مجال للحديث إلَّا معك .. أعني قد لا تكون نجماً أو كوكباً أو حتي كويكب ولكني لا أنوي أن أمضي وقتي صامتة أنتظر مجيء الشمس ، لذا أنا مضطرة لتضييع وقتي معك حتي وقت مغادرتك ومجيء صديقتي .

    أثارت كلمات الأرض شعور القمر بالضِّعَة والإهانة فلطالما كان بالنسبة لهذا الكون الفسيح مجرد جسم معتم ، فحتي جماله المتمثّل في ضوءه فإنه مستمَد من كبيرة مجموعتهم ' الشمس ' .

    سأل القمرُ الأرض : أخبرتني عن حريق علي سطحك فما القصة ؟

    أجابت الأرض : ومن سيُضرم النيران فيَّا سوي البشر؟ من القادر علي إيلامي مُذ نزلوا بي سواهم ؟

    صمتت الأرض قليلاً ثم أكملت متسائلة : لما السؤال ووجهك موجه نحو سطحي في كلَّ ليلة من ليالي من يقطنون بهذا الجزء مني ؟ ألا تستطيع أن تري النيران والدخان وكل هذا الدمار ؟

    فأجاب القمر : في الواقع أنا لا أنظر نحو سطحكِ منذ زمن ، ويطل وجهي علي سكّانه ولكن بصري أغضُّه ، وقبل أن تسألي فإن هذا قرارٌ اتخذته منذ زمن .. في الماضي وقبل أن يكون هناك البشر كنت أتمتّع بالنظر إلي جمال سطحك وتعقيد تركيبه ، فبينما لا يوجد علي سطحي سوي التراب والغبار فإنّني كنت أري عزائي في جمالك ، وبعدها نزل البشر بكِ ولأكون منصفاً رأيت منهم الجيد والسيء ، رأيت سلمهم وحربهم، رأيت موتهم وحياتهم و ظلامهم ونورهم ، ولكن بعد كل فترة سلمٍ وبعد كل فترة حياة كان يجب أن تأتي الحرب ، كان يجبُ أن يقتلوا بعضهم بعضا .. لم أتحمّل واتخذت قراري بعَدَمِ الإطلاع علي حياتهم ، ولا أُخفي أنني كنت أسترقُ النظر أحياناً في لحظاتهم الجميلة ..لحظات الميلاد ولحظات الحب ولحظات الأمل وحتماً لحظات السلام .

    تنهَّد القمر ثم أكمل قائلا : لكنّني سرعان ما أُزيحُ بصري مرة أخرى لحظة إفسادهم لكلّ هذا ..

    معكِ حق قد لا أكون نجمتاً أو كوكباً أو حتي كويكباً لكنّ سطحي لم يتلوَّث بقوانين سكانكِ الفاسدة ، ولم يتلوث بمبادِئهم المتغيرة حسب المصالح وحسب الأهواء ، لم يتشرب سطحي دماءهم وإن كنت مقتنعاً أن دماء أبريائهم طاهرة ، لم أحمل في جوفي جثثهم .. أنا إن كان لي أن أُفاخر بشيء ما أمامك فسأفخر بنظافة سطحي وطهارته ، وفي الواقع ما من شيء لأحسدكِ عليه إطلاقاً .

    نظرت الأرض إلي القمر في تعجب وكأن تعجبها لم يكن مما قاله تحديدا ولكن مما ترتب عليه ، فقد شعرت بأن شيئا ما انكسر.. لقد كان كبريائها.

    صمتت الأرض ... وصمت القمر .. وعمَّّ السكون كافة أرجاء المجرة ، كأنّما كانت تُهيّأ لأمرٍ عظيم ..

    Batool Khalil

    Batool Khalil

    مُحبَّة للمعرفة

    أغوص في بحر المعرفة لأبحث لكم عن جميل الفِكَر ، لأكتب مادةً دسمة تكون إضافةً جديدةً ، وفكرةً بديعةً تُثرَي بها عقولكم وتفتح أمامكم باباً لشيء جديدٍ كان مجهولاً .

    تصفح صفحة الكاتب

    اقرأ ايضاّ