تفنيد وهم العرق الإجرامي: تفكيك الارتباط الزائف بين الجريمة والانتماء العرقي

العلم ضد الوهم: نحو بيئات اجتماعية داعمة تتجاوز التنميط العنصري
مقدمة هذه المقالة تنطلق من هدف أساسي وهو إجراء دراسة موضوعية ومحايدة لتفنيد الاعتقادات الخاطئة والمنتشرة حول وجود ارتباط جوهري بين الجريمة والانتماء العرقي. أود التأكيد بشدة في مستهل هذا البحث على أن الغاية ليست معاداة أي عرق أو دولة بعينها، بل توضيح الحقائق وتبديد الأوهام التي لا تزال للأسف تلقى رواجًا في بعض المجتمعات. إن تناول هذا الموضوع الحساس يأتي من منطلق علمي بحت، يسعى إلى تفكيك الارتباط الزائف الذي تم نسجه تاريخيًا بين الجريمة وهوية الأفراد بناءً على عرقهم أو أصلهم القومي.
هذه الدراسة تهدف إلى تسليط الضوء على جذور هذه الأفكار المغلوطة، وتحليل الآليات الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في انتشارها وترسيخها. إن فهم هذه الخلفيات أمر بالغ الأهمية لتجاوز هذه التصورات النمطية الضارة، والتي غالبًا ما تؤدي إلى التمييز والتحيز والعنف. من خلال تقديم حجج منطقية وأدلة دامغة، نسعى إلى إبراز أن الجريمة سلوك إنساني معقد ينبع من عوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية متنوعة، ولا يمكن اختزاله أو ربطه بشكل قاطع بأي مجموعة عرقية أو قومية محددة.
إن عنوان المقالة "تفنيد وهم العرق الإجرامي: تفكيك الارتباط الزائف بين الجريمة والانتماء العرقي" يعكس بوضوح الهدف من هذه الدراسة. نحن هنا لسنا بصدد إلقاء اللوم على أي طرف، بل نسعى إلى تقديم تحليل موضوعي يساهم في تعزيز الفهم الصحيح لهذه القضية الحساسة. إن تفنيد هذا الوهم ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو خطوة ضرورية نحو بناء مجتمعات مزدهرة تركز على النمو والرخاء الشامل مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافًا، تتجاوز الأحكام المسبقة وتقوم على أساس الاحترام المتبادل والحقيقة. إن الهدف الأسمى هو المساهمة في نشر الوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي عانت منها ولا تزال تعاني منها العديد من المجتمعات حول العالم.
مقدمة:
تظل قضية الإجرام لغزًا معقدًا يرافق المجتمعات البشرية عبر عصورها، مثيرةً تساؤلات حول دوافعه وأسبابه. وفي محاولة فهم هذه الظاهرة، ظهرت عبر التاريخ رؤى قاصرة ومضللة تسعى لربط الإجرام بالعرق، وهو ادعاء باطل يتجاهل التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشكل السلوك الإنساني. هذه الدراسة التحليلية التاريخية الدينية المتعمقة تهدف إلى تفنيد هذا الارتباط الزائف بشكل قاطع، مستندةً إلى أسس علمية وتاريخية ودينية راسخة. سنستعرض كيف نشأت المفاهيم العنصرية وتأثيرها المشوه على تفسيرات الإجرام، ونحلل بعمق العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تساهم في ارتفاع معدلات الجريمة في بعض المجموعات العرقية (مع التأكيد على أنها نتاج للظروف لا الجينات). كما ستلقي الدراسة ضوءًا كاشفًا على أبرز العائلات والمنظمات الإجرامية عبر التاريخ، مؤكدةً على تنوع خلفياتها العرقية وأن دوافعها كانت محصورة في السعي للسلطة والثروة والنفوذ ضمن سياقات اجتماعية محددة، لا في خصائص عرقية جوهرية.
الجزء الأول: تفكيك الوهم العنصري: لا عرق إجرامي في ميزان العلم والتاريخ والدين
نشأة المفاهيم العنصرية وتشويه تفسيرات الإجرام

تعود بذور المفاهيم العنصرية التي لوثت فهمنا للإجرام إلى حقبة الاستعمار والتجارة عبر الأطلسي للرقيق، وهي فترة مظلمة بدأت في القرن الخامس عشر واستمرت قرونًا. خلال هذه الحقبة، تم اختلاق أيديولوجيات زائفة حول "العرق" لتبرير الاستعباد الوحشي والاستغلال الاقتصادي للشعوب الأفريقية والأصلية. تم تصوير هذه المجموعات بشكل خبيث على أنها "أدنى" منزلة، و"غير متحضرة"، و"مائلة بطبيعتها" نحو السلوكيات المنحرفة والإجرامية، مما أرسى أساسًا زائفًا ومضللًا للربط المشين بين العرق والجريمة.
نظرية علم الفراسة أو ال_PHRENOLOGY:
في القرن التاسع عشر، برز ما يُعرف بـ "علم فراسة الدماغ" (Phrenology)، وهو علم زائف يدعي إمكانية تحديد الصفات العقلية والشخصية من خلال شكل الجمجمة، بالإضافة إلى نظريات "علم الإنسان الجنائي" (Criminal Anthropology) التي دافع عنها سيزار لومبروزو. زعم لومبروزو أن المجرمين يمتلكون سمات جسدية مميزة تشير إلى "ارتداد تطوري" نحو أشكال بشرية بدائية. على الرغم من أن لومبروزو لم يركز حصريًا على العرق، إلا أن أفكاره المشوبة بالعنصرية تم تطبيقها بشكل خبيث لتفسير الاختلافات المزعومة في معدلات الجريمة بين المجموعات السكانية المختلفة، حيث افترض زورًا أن بعض "الأعراق" كانت أكثر "بدائية" وبالتالي أكثر عرضة للانزلاق إلى عالم الجريمة.
نظرية الأفكار والمغتقدات المعادية للسود في امريكا
في أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة، لعبت الكتابات العنصرية دورًا مسمومًا في ترسيخ هذه الروابط الكاذبة. يُعد كتاب تشارلز كارول (1900) "الزنجي وحش" مثالًا مروعًا لهذا النوع من الدعاية التحريضية، حيث صور الأمريكيين الأفارقة على أنهم كائنات وحشية متأصلة وعرضة للعنف والجريمة. غذت هذه الأفكار المتعصبة تحيزات عنصرية عميقة الجذور وأثرت بشكل كبير على الرأي العام وعملية صنع السياسات التمييزية.
استمرت هذه المفاهيم العنصرية الخبيثة في التأثير بشكل مدمر على نظام العدالة الجنائية. تم تطبيق قوانين وسياسات تمييزية استهدفت بشكل غير متناسب مجتمعات الأقليات. على سبيل المثال، استُخدمت "قوانين السود" (Black Codes) بعد الحرب الأهلية الأمريكية كأداة قمع لتجريم سلوكيات كانت تستهدف الأمريكيين الأفارقة على وجه الخصوص، مما أدى إلى سجنهم بأعداد هائلة وإبقائهم في شكل جديد من أشكال العمل القسري.
لاحقًا، أدت "الحرب على المخدرات" الكارثية في أواخر القرن العشرين إلى تفاقم الفوارق العرقية المروعة في السجون، حيث تم تطبيق قوانين العقوبات بشكل جائر وغير متناسب على الأقليات، على الرغم من عدم وجود اختلافات جوهرية في معدلات تعاطي المخدرات بين المجموعات العرقية المختلفة.
تفنيد النظريات العنصرية:
أدوات تفنيد النظريات العنصرية: -
- الدراسات الأنثروبولوجية المقارنة: أظهرت أن السلوكيات المنسوبة زورًا إلى "وحشية" الأمريكيين الأفارقة كانت نتاجًا للظروف القاسية التي فرضها العبودية والتمييز.
- الدراسات البيولوجية والوراثية: كشفت عن عدم وجود أساس بيولوجي للعرق كفئة متميزة، مؤكدة على الوحدة الأساسية للجنس البشري.
- التحليل النقدي للدراسات العنصرية: فضح التحيزات والأخطاء المنهجية في الدراسات التي استند إليها العنصريون.
تفنيد نظرية فراسة الدماغ
قوبلت فراسة الدماغ بتفنيد واسع النطاق من قبل علماء بارزين في منتصف القرن التاسع عشر. من أبرز هؤلاء العلماء ماري جان بيير فلورنس، وهو طبيب وعالم وظائف أعضاء فرنسي رائد في دراسات الدماغ وتحديد مواقع وظائفه. أثبت فلورنس من خلال تجاربه أن الجمجمة لا تعكس بدقة شكل الدماغ، وأن الدماغ يعمل كوحدة متكاملة وليس كمجموعة من الأعضاء المنفصلة كما ادعى علماء الفرينولوجيا.
كما سخر عالم وظائف الأعضاء الفرنسي فرانسوا ماجندي من الفرينولوجيا ووصفها بأنها "علم زائف في هذا العصر، مثل التنجيم والسحر والخيمياء في العصور السابقة، يدعي تحديد مواقع أنواع الذاكرة المختلفة في الدماغ".
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان المجتمع العلمي قد نبذ الفرينولوجيا بشكل كبير، واعتُبرت ممارسة زائفة تماثل قراءة الكف والتنجيم. على الرغم من ذلك، فقد كان لفكرة ربط مناطق معينة في الدماغ بوظائف محددة تأثير على تطور علم الأعصاب ودراسة توطين وظائف الدماغ.
تفنيد الأفكار الخاصة بالسود في أمريكا
علماء بارزون في تفنيد النظرية:
- فرانز بو: رائد الأنثروبولوجيا الحديثة، أثبت أن الاختلافات بين المجموعات البشرية ثقافية وليست بيولوجية. أكد على النسبية الثقافية، مشددًا على أن "العرق" مفهوم اجتماعي لا بيولوجي، وأن القدرات لا ترتبط به. اقتباس: "الحضارة ليست شيئًا مطلقًا، بل هي نسبي... أفكارنا ومعتقداتنا متجذرة في الحضارة التي نشأنا فيها.
- ويليام إدوارد بورغاردت دو بويز: عالم اجتماع وناشط حقوق مدنية، فضح في دراساته الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي شكلت حياة الأمريكيين الأفارقة، مؤكدًا أن مشاكلهم ناتجة عن التمييز والقمع المنهجي لا عن قصور متأصل.
- آشلي مونتاغيوو: عالم أنثروبولوجيا، فند في كتابه "Man's Most Dangerous Myth" المفهوم البيولوجي للعرق، موضحًا أنه بناء اجتماعي وثقافي لا أساس جيني له. اقتباس: "العرق ليس حقيقة بيولوجية، بل هو أسطورة اجتماعية."
- ميلفيل هيرسكوفيتس: عالم أنثروبولوجيا، أبرز تأثير الثقافة الأفريقية على ثقافة الأمريكيين الأفارقة، متحدىً النظرة التي تعتبرها بدائية. أكد على أهمية السياق الثقافي في فهم السلوك.
- روث بندكت: عالمة أنثروبولوجيا، طورت مفهوم النسبية الثقافية، مؤكدة أن كل ثقافة تُفهم في سياقها الخاص، وعملت على دحض الصور النمطية العنصرية.
تفنيد الارتباط البيولوجي: لا يوجد "جين إجرامي" عرقي

لا يوجد أساس علمي لفكرة وجود "جين إجرامي" مرتبط بعرق معين. السلوك الإجرامي ناتج عن تفاعل معقد بين الوراثة والبيئة، والتنوع الجيني داخل الأعراق أكبر من التنوع بينها.
ريتشارد سي. ليفونتين: "معظم التباين الجيني يحدث داخل المجموعات السكانية وليس بينها." ([Lewontin, Richard C. "The apportionment of human diversity." Evolutionary Biology 6 (1972): 381-398.])
الدراسات على التوائم والتبني تؤكد دور البيئة الاجتماعية، ولا يوجد توزيع عرقي محدد لعوامل وراثية تجعل عرقًا أكثر عرضة للإجرام بيولوجيًا.
العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: محركات الإجرام في سياق عرقي
العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا العرق، هي المحركات الرئيسية للإجرام. الفقر، والتمييز، وعدم المساواة في الفرص تؤثر بشكل غير متناسب على بعض المجموعات العرقية.
ويليام جوليوس ويلسون: "إن التركز المكاني للفقر يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية في المجتمعات المحرومة." ([Wilson, William Julius. The Truly Disadvantaged: The Inner City, the Underclass, and Public Policy. University of Chicago Press, 1987.])
التمييز العنصري في التعليم والتوظيف والإسكان ونظام العدالة الجنائية يساهم في ارتفاع معدلات الجريمة في بعض المجتمعات العرقية.
ميشيل ألكسندر: "إن نظام العدالة الجنائية يعمل على إدامة عدم المساواة العرقية." ([Alexander, Michelle. The New Jim Crow: Mass Incarceration in the Age of Colorblindness. The New Press, 2010.])
غياب الفرص، وتاريخ العنف والاضطهاد، وتأثير الأحياء المحرومة تزيد من احتمالية تورط الأفراد في الجريمة.
دور نظام العدالة الجنائية في إدامة الفوارق العرقية
يلعب نظام العدالة الجنائية دورًا في تضخيم الفوارق العرقية في الإحصائيات المتعلقة بالإجرام من خلال التحيزات الضمنية والممارسات التمييزية. التنميط العنصري والتحيز في القرارات القضائية والتفاوت في التمثيل القانوني وتأثير السجل الجنائي تساهم في هذه المشكلة.
الدراسات المقارنة عبر الثقافات: تفكيك الارتباط الزائف
تظهر الدراسات المقارنة أن معدلات الجريمة تختلف بين الدول والمجتمعات بناءً على العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، لا العرق. تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية يؤدي إلى تغير معدلات الجريمة بين المجموعات العرقية.
الدراسات المقارنة عبر الثقافات
شهد التاريخ الحديث محاولات عديدة لربط الجريمة بالانتماء العرقي، سواء عبر نظريات بيولوجية زائفة في القرن التاسع عشر أو عبر خطابات إعلامية وأمنية في القرنين العشرين والحادي والعشرين كما ذكرنا سابقاً. غير أن الدراسات المقارنة الجادة العابرة للثقافات، أثبتت أن هذا الربط لا يصمد أمام الفحص العلمي الرصين، وأن ما يُظن ارتباطًا عرقيًا بالجريمة، هو في الحقيقة نتيجة لعوامل اجتماعية واقتصادية وتاريخية عميقة.
نقد علم الإجرام العنصري: بداية تفكيك الوهم
في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ باحثون أمثال هوارد بيكر (Howard Becker) وويليام شامبليس (William Chambliss) في تفكيك النظرة الجوهرانية للمجرم. نشر بيكر عام 1963 كتابه المؤثر "Outsiders: Studies in the Sociology of Deviance" حيث أكد أن الانحراف الاجتماعي، بما فيه الجريمة، ليس سلوكًا فطريًا بل نتيجة لعملية وسم اجتماعي (Labeling). وأوضح أن الأقليات كثيرًا ما توصف بالمجرمين فقط لأن السلطات والمجتمع يسلطان الضوء على أفعالهم دون غيرهم.
أما شامبليس، ففي دراسته الشهيرة عام 1973 عن المراهقين في أمريكا تحت عنوان "The Saints and the Roughnecks"، بيّن كيف أن مجموعتين من الشباب ارتكبا أفعالًا مخالفة للقانون، لكن الأولى (ذات خلفية بيضاء غنية) لم تُعاقب، بينما وُصفت الثانية (من خلفية فقيرة) بالمجرمين. الاستنتاج كان واضحًا: الطبقة والانتماء العرقي يؤثران على تصنيف الجريمة وليس طبيعة الفعل بحد ذاته.
المقاربات المقارنة: دراسات عابرة للثقافات
في العقود الأخيرة، توسعت الدراسات المقارنة لتشمل دولًا من الجنوب العالمي، وتوصلت إلى نتائج حاسمة في نقض فكرة "العرق الإجرامي":
- في دراسة مقارنة نُشرت عام 2000 بعنوان "Crime and Social Structure Across Space and Time" أعدّها الباحثان LaFree وTseloni، تم تحليل بيانات الجريمة من أكثر من 30 دولة، وخلصا إلى أن معدلات الجريمة ترتبط أكثر بعدم المساواة الاقتصادية ونقص العدالة الاجتماعية وليس بالعرق أو الانتماء الإثني.
- في جنوب إفريقيا، بيّن الباحث Claude Ake في تحليله ما بعد الفصل العنصري، أن تصاعد الجريمة في أوساط السود بعد 1994 كان نتيجة لفشل إعادة توزيع الموارد وبقاء منظومة الإقصاء الاجتماعي، وليس دليلاً على "ميل عرقي للجريمة".
- أما في الولايات المتحدة، فقدم Michelle Alexander في كتابها الصادر عام 2010 "The New Jim Crow: Mass Incarceration in the Age of Colorblindness" تحليلًا بالغ الأهمية يُظهر كيف أن نظام العدالة الأمريكي، رغم ادعائه الحياد، يستهدف السود والأقليات بشكل منهجي، بحيث تتحول الهوية العرقية نفسها إلى تهمة.
دراسات عن الإعلام والتمثيل الزائف: ترسيخ الصورة النمطية
توصلت دراسات مثل بحث Robert Entman عام 1992 حول "تمثيل السود في الإعلام الأمريكي" إلى أن التغطية الإخبارية تميل إلى المبالغة في تغطية الجرائم التي يرتكبها السود وتجاهل أو تلطيف الجرائم التي يرتكبها البيض. وهذا يخلق وهمًا إحصائيًا بأن فئة عرقية بعينها أكثر إجرامًا، بينما الواقع يعكس تحيزًا في التغطية لا في الفعل.
نحو فهم علمي للجريمة: التركيز على البنية لا العرق
التيار السوسيولوجي المعاصر، الذي تقوده أسماء مثل Loïc Wacquant وDavid Garland، يرفض تمامًا ربط الجريمة بالعرق، ويؤكد على أن الجريمة ظاهرة بنائية مرتبطة بمحددات مثل:
- التمييز الطبقي
- الفقر الحضري
- تاريخ الاستعمار
- غياب مؤسسات العدالة والرعاية
كما يشير Wacquant في كتابه "Punishing the Poor" (2009) إلى أن التحكم في الفقراء – لا محاربة الجريمة – هو الهدف الحقيقي للسياسات العقابية الحديثة، وهو ما يفسر الاستهداف الممنهج لأقليات عرقية في السجون.
الجزء الثاني: سياقات الإجرام وعوالم العائلات المنظمة: تنوع الأعراق ووحدة الدوافع
المافيا الإيطالية (Cosa Nostra): نشأة في سياق اجتماعي محدد

نشأت في صقلية في القرن التاسع عشر في ظل ضعف سلطة الدولة والفقر والفساد، وتوسعت في الولايات المتحدة مع الهجرة الإيطالية.
دوايت سي. سميث الابن: "نشأت المافيا كاستجابة لغياب سلطة الدولة الفعالة في جنوب إيطاليا." ([Smith, Dwight C., Jr. The Mafia Mystique. Basic Books, 1990.])
الياكوزا اليابانية: تطور في سياق ثقافي فريد

منظمات إجرامية تقليدية في اليابان تعود للقرن السابع عشر، تطورت في طبقات اجتماعية مهمشة لأسباب تاريخية واجتماعية.
ديفيد إي. كابلان وأليك دوبو: "تتميز الياكوزا ببنية هرمية صارمة وولاء قوي للزعيم، وتنشط في مجموعة متنوعة من الجرائم." ([Kaplan, David E., and Alec Dubro. Yakuza: Japan's Criminal Underworld. University of California Press, 2012.])
العصابات الصينية ثلاثية الأبعاد (Triads): نشأة في اضطرابات سياسية واجتماعية
ظهرت في الصين في القرن الثامن عشر وتوسعت عالميًا، مدفوعة بالسلطة والحماية والمصالح الاقتصادية في سياق اجتماعي وسياسي مضطرب.
مارتن بوث: "تنشط العصابات ثلاثية الأبعاد في مجموعة متنوعة من الجرائم، وتمثل تهديدًا عالميًا متزايدًا." ([Booth, Martin. The Triads: The Growing Global Threat from the Chinese Criminal Underworld. St. Martin's Press, 1999.])
الكارتلات الكولومبية والمكسيكية: صعود في ظل الفقر وعدم الاستقرار
ظهرت في أواخر القرن العشرين وتورطت في تهريب المخدرات، مدفوعة بالفقر وعدم الاستقرار السياسي وضعف سلطة القانون في أمريكا اللاتينية.
مارك بودن: "كانت كارتلات المخدرات في كولومبيا والمكسيك تتميز ببنية تنظيمية معقدة وعنف شديد." ([Bowden, Mark. Killing Pablo: The Hunt for the World's Greatest Outlaw. Atlantic Monthly Press, 2001.])
عائلات الجريمة المنظمة الأمريكية: تنوع عرقي ووحدة الدوافع
ظهرت عصابات إجرامية من خلفيات عرقية متنوعة (إيطالية، أيرلندية، يهودية، أفريقية أمريكية وغيرها) في سياقات مختلفة من الهجرة والتمييز والفرص المحدودة، مدفوعة بالسعي للثروة والسلطة.
روبرت ج. كيلي: "شهدت الولايات المتحدة ظهور العديد من عائلات الجريمة المنظمة التي لم تقتصر على عرق واحد." ([Kelly, Robert J. Encyclopedia of Organized Crime in the United States. Greenwood Press, 2000.])
الجزء الثالث: المنظور الديني: لا عرق إجرامي في ميزان الشرائع السماوية
وحدة الأصل البشري في الكتب السماوية
منطلق ديني لتفكيك التصنيفات العنصرية في فهم الجريمة
تؤكد الكتب السماوية – القرآن الكريم، التوراة، والإنجيل – وحدة أصل الإنسان، وترفض بشكل صريح أيّ تصنيف للبشر على أساس العرق أو اللون أو النسب كأساس للتفاضل أو الحكم الأخلاقي، بما في ذلك وصم جماعة بعينها بالإجرام. وهذه النصوص تؤسس لمنظور إنساني عالمي، يرى في كل البشر إخوة في الخلق والمصير، مسؤولين عن أفعالهم الفردية لا عن أعراقهم.
1. القرآن الكريم: "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ" (سورة الحجرات، آية 13)
هذه الآية تشكّل حجر الأساس في الفهم القرآني للوحدة البشرية. فالله تعالى يقرر أن جميع الناس من أصل واحد ("ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ")، وأن الاختلافات العرقية والثقافية ("شُعُوبًا وَقَبَائِلَ") ليست مدعاة للتمييز أو التفاضل، بل وسيلة لـ"التعارف" لا "التصنيف الأخلاقي".
وقد علّق الطبري في تفسيره على هذه الآية قائلاً:
"جعلناكم كذلك لتعرف بعضكم بعضًا في النسب، لا ليتفاخر بعضكم على بعض".
أما القرطبي، فنبّه إلى أن:
"هذه الآية ردٌّ على من يفتخر بالأنساب ويحتقر غيره لأصله، فإن التفاضل عند الله بالتقوى لا بالحسب".
2. التوراة: "فخلق الله الإنسان على صورته"
سفر التكوين (الإصحاح الأول، الآية 27):
"فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم".
الكتاب المقدس يؤكد كذلك أن كل إنسان مخلوق على صورة الله، وهو ما يُفهم تقليديًا في اللاهوت اليهودي والمسيحي على أنه امتياز روحي وإنساني مشترك بين كل البشر.
- في التفسير اليهودي (مدراش بيريشيت رباه)، يُفهم هذا النص على أنه يعني المساواة الجوهرية بين كل بني آدم، وأن لا أحد يمكن أن يُزدرى بسبب أصله.
- كذلك نجد في التوراة تحذيرات من التمييز، مثل:
"لا تظلم الغريب، ولا تضايقه، فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر" (الخروج 22: 21)
3. الإنجيل: "ليس يهودي ولا يوناني"
رسالة بولس إلى أهل غلاطية (3:28):
"لَيْسَ هُنَاكَ يَهُودِيٌّ وَلا يُونَانِيٌّ، لَيْسَ هُنَاكَ عَبْدٌ وَلا حُرٌّ، لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ".
في هذا النص المسيحي المحوري، يتم إلغاء كل الفوارق العرقية والاجتماعية والدينية في القيمة أمام الله. وهذه الرؤية كانت ثورية في مجتمع طبقي وعنصري آنذاك، وأثّرت في الحركات المسيحية اللاحقة المدافعة عن الحقوق المدنية، مثل خطاب مارتن لوثر كينغ في أمريكا.
4. الرسول محمد ﷺ: خطبة الوداع ونقض العنصرية
جاء في خطبة حجة الوداع، التي اعتبرها الفقهاء بمثابة إعلان عالمي لحقوق الإنسان:
"يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى."
هذه الخطبة تُعدّ من أوضح التصريحات النبوية في رفض كل أشكال العنصرية، بل وتحذير مباشر من إعادة إنتاج التصنيف العرقي حتى بعد انتشار الدين.
5. المسؤولية الفردية لا الجماعية
كذلك، في الأديان الثلاثة، يتم التأكيد على أن الإنسان مسؤول عن أفعاله لا عن أصله أو قومه. في الإسلام، يقول تعالى:
"ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الأنعام: 164)
وفي سفر حزقيال (18:20):
"النفس التي تخطئ هي تموت، الابن لا يحمل إثم الأب، والأب لا يحمل إثم الابن".
ترسيخ مبدأ وحدة الأصل البشري في النصوص الدينية يدحض فكرة "العرق الإجرامي" من جذورها. فالجريمة، في المنظور الإلهي، فعل أخلاقي فردي يُحاسب عليه الإنسان لا قومه. إنّ استغلال التصنيفات العرقية لإصدار أحكام أخلاقية أو قانونية يضع القاضي أو السياسي أو الإعلامي في موقف يناقض جوهر الوحي الإلهي، ويحول الدين إلى أداة تمييز لا وحدة.
خاتمة:
إن الربط بين الإجرام والعرق هو ارتباط زائف تاريخيًا وعلميًا ودينيًا. لا يوجد أي أساس بيولوجي أو شرعي يدعم فكرة وجود "ميل عرقي" للإجرام. بدلاً من ذلك، فإن الفوارق العرقية في الإحصائيات المتعلقة بالإجرام هي نتاج للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر بشكل غير متناسب على بعض المجموعات العرقية بسبب التاريخ الطويل من التمييز والإقصاء. كما أن دراسة العائلات والمنظمات الإجرامية عبر التاريخ تكشف عن تنوع عرقي ووحدة في الدوافع المرتبطة بالسلطة والمال والظروف الاجتماعية لا بالعرق نفسه. إن فهم هذه العوامل الجذرية ومعالجتها من خلال سياسات عادلة ومنصفة، مسترشدين بمبادئ العدل والمساواة التي تنادي بها جميع الشرائع السماوية، هو السبيل الوحيد لتحقيق مجتمعات أكثر أمانًا وعدالة للجميع، بغض النظر عن العرق. إن تفنيد هذا الوهم العنصري ليس مجرد ضرورة علمية وأخلاقية، بل هو أيضًا واجب ديني تمليه مبادئ الإنسانية التي تجمعنا.
المراجع
Anderson, Elijah. Code of the Street: Decency, Violence, and the Moral Life of the Inner City. W. W. Norton & Company, 1999.
Bobo, Lawrence D., Melvin L. Oliver, James H. Johnson Jr., and Camille Zubrinsky Charles (eds.). Prismatic Metropolis: Inequality in Los Angeles. Russell Sage Foundation, 2000.
Bowden, Mark. Killing Pablo: The Hunt for the World's Greatest Outlaw. Atlantic Monthly Press, 2001.
Carroll, Charles. (1900). The Negro a Beast. American Book and Bible House.
Collins, Robert O. (1971). Land Beyond the Rivers: The Southern Sudan, 1898-1918. Yale University Press. (كمثال على التبريرات الاستعمارية).
Daly, M. W. (1986). Empire on the Nile: The Anglo-Egyptian Sudan, 1898-1934. Cambridge University Press. (كمثال على تأثير الأيديولوجيات الاستعمارية).
Fried, Albert. The Rise and Fall of the Jewish Gangster in America. Columbia University Press, 1993.
Gabbidon, S. L., & Greene, H. T. (2001). Race, Crime, and Justice: An Introduction. Roxbury Publishing Company. (يقدم نظرة عامة على تطور ربط العرق بالجريمة).
Gould, Stephen Jay. The Mismeasure of Man. W. W. Norton & Company, 1996.
Kaplan, David E., and Alec Dubro. Yakuza: Japan's Criminal Underworld. University of California Press, 2012.
Kelly, Robert J. Encyclopedia of Organized Crime in the United States. Greenwood Press, 2000.
Kendi, I. X. (2016). Stamped from the Beginning: The Definitive History of Racist Ideas in America. Nation Books. (يقدم تحليلاً شاملاً لتاريخ الأفكار العنصرية).
Lewontin, Richard C. "The apportionment of human diversity." Evolutionary Biology 6 (1972): 381-398.
Lombroso, Cesare. L'uomo delinquente [Criminal Man]. Bocca, 1876. (عمله الأساسي في علم الإنسان الجنائي).
National Research Council. Understanding Racial and Ethnic Differences in Health in Late Life: A Research Agenda. National Academies Press, 2004.
O'Kane, James M. The Crooked Ladder: Gangsters, Ethnicity, and the American Dream. Transaction Publishers, 1992.
Roberts, Dorothy. (1997). Killing the Black Body: Race, Reproduction, and the Meaning of Liberty. Pantheon Books. (تحليل معاصر لتأثير الأفكار العنصرية على السياسات والقوانين).
Sampson, Robert J., and W. Byron Groves. "Community structure and crime: Testing social-disorganization theory." American Journal of Sociology 94, no. 4 (1989): 774-802.
Smedley, A., & Smedley, B. D. (2005). "Race as biology is fiction, racism as a social problem is real: Anthropological and historical perspectives on the social construction of race." American Psychologist, 60(1), 16–26. (يقدم تفنيدًا علميًا لمفهوم العرق البيولوجي).
Smith, Dwight C., Jr. The Mafia Mystique. Basic Books, 1990.
Tonry, Michael. Malign Neglect: Race, Crime, and Punishment in America. Oxford University Press, 1995.
Wilkinson, Richard G., and Kate Pickett. The Spirit Level: Why More Equal Societies Almost Always Do Better. Allen Lane, 2009.
Wilson, William Julius. The Truly Disadvantaged: The Inner City, the Underclass, and Public Policy. University of Chicago Press, 1987.