أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

النور عادل
كاتب.. مؤلف..وروائي
نشرت:
وقت القراءة: دقائق

حين اندلعت حرب 15 أبريل 2023 في الخرطوم على حين غرة من السلام، كنت أهم بفتح محلنا الجديد لبيع الزي التقليدي السوداني، لاحظت جري السيارات المسرع على غير العادة وصوت إغلاق أصحاب المحالّ المتعجل لأبواب محلاتهم، سألت أحد المارة (ماذا هناك) فأجابني (إنها الحرب بين الجيش والدعم السريع). وكأنما اخترقت رصاصة جمجمتي وكسرتها أمامي وأنا أرى أيامي تنصرم يوما بعد آخر، ولا يبدو في الأفق أن أحد الطرفين قد ثاب لرشده وقرر ترك السلاح جانباً ولو لبضع ساعات حتى ينام الطير، ويطمئن الأطفال إلى أن كل شيء على ما يرام.

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

تحولت مدينتا أم درمان الجميلة الأنيقة الوادعة إلى خراب في غضون بضعة أسابيع من اندلاع تمرد الدعم السريع ضد الجيش، فلم يتوان التمرد في دخول منازل المدنيين واتخاذها ثكنات عسكرية، نصيب داخلها المدافع والأسلحة المضادة للطائرات والرشاشات، وطرد أصحابها إلى المجهول. لحسن الحظ كان بيتنا بعيدا عن واجهة الأسفلت، ما يعني من ناحية عملياتية لا يهمهم جدا أمرنا.

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

ثلاثة أشهر قضيتها وأخي في بيتنا نحرسه من اللصوص والنهب بما وسعنا مع نفر قليل من سكان حينا الذين أضطرهم القصف العشوائي للنزوح للولايات المجاورة واللجوء لدول الجوار. كل حياتنا التي كنا نعرفها قبل 15 أبريل تغيرت رأسا على عقب. فصارت الكافيهات والبنايات الأنيقة الفخمة التي كنا نرتادها طلبا للصحبة والترفيه مراكز لقناصة الجيش والتمرد، حتى المستشفيات واهبة الشفاء تحولت لمخازن للسلاح والذخيرة، أغلقت جل المحال التجارية أبوابها خوفا من النهب أو السرقة.

لم أجد حولي أكثر من الوقت، الفراغ، لدرجة أننا كنا نجلس ونحصي أصوات طلقات المدافع التي كانت تعوي من أقصى شمال أم درمان. ومع الوقت وجدتنا وقد اعتدنا الأمر برغم خطورته، كان القناصة يتلاعبون بنا يوميا بالرصاص الحي كأننا دمى للتدريب. يرموننا تحت أرجلنا، أو فوق رؤوسنا. ومع غروب الشمس تهدأ الحركة وتنقطع تماما الا همس هنا وهناك، وأرجل مسرعة تجول الطرقات الداخلية على وجل، إلى أن يبدأ أحد الأطراف رحلة الازعاج الليلي المعروفة ب (التمشيط)، فيبدأ باطلاق الرصاص في الهواء على وهو يتجول بين البيوت المسكونة بالخوف والحذر والترقب.

العاصمة الخرطوم قبل الحربالعاصمة الخرطوم قبل الحرب

لذلك قررت أن أكتب بينما هم يتقاتلون، نعم هذا ما وجدت فيه راحتي وسلامي. كان بإمكاني الانضمام لاحد المتحاربين، لكنني لم أفكر كثيرا في الأمر ولم يبد لي أنه مقنع ولو بالحد الادنى لي، إذ هذه الحرب أقرب ما تكون للأهلية والسياسية ويلفها الغموض من كل جانب.

لذلك قررت أن أقاتل بطريقتي، في البدء خصصت نحو ساعتين لكتابة كتاب توثيقي حول الحرب، ولاحقا اكتشفت أن عندي الوقت الكافي للكتابة الطويلة، فصرت أجلس جل ساعات الليل أبحث وأدون على ورق جانبي، خطوط وعناوين كتابي الجديد. ومكنني أن كان معي قبل الحرب عدد من الكتب والمراجع حول تاريخ السودان الحديث، وبعض المراجع لجلبها كلفني الأمر نجاة من طلقات قناص يخفي نفسه في إحدى البنايات العالية، ولاحقا كلفتني العودة بالكتب اعتقالا احتياطيا من الجيش نحو أربعة أيام منذ ثاني أيام عيد الأضحى، كانت الكتب شبهة كبيرة جدا وقتها، أذكر أنهما كتابان، الأول (في الأدب السوداني) لعلي ألمك ، والثاني وهو الذي بسببه ابتليت بضرب مبرح هو (جدلية الهامش والمركز) لدكتور أبكر آدم إسماعيل. كاد الكتاب الأخير يودي بي لمجرد أن عنوانه يحوي كلمتي "السلطة والدولة". لكن بالجملة حتى فترة الاعتقال هذه كانت محفزة بشكل جيد لي لأقاتل بطريقتي الخاصة ضد هذه الكارثة.

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

أستطيع وصف شعور الكتابة تحت القصف بأنه سلام في وسط اللاطمأنينة. رغبة في بعث الأمل من بين الخراب. الكتابة تحت أزيز الطائرات المسيرة تحليق في رحاب الأمل الممكن عبر انسيابية القلم ومقاومته الباسلة رغبة الإنسان العارمة في التدمير. كنت أحيانا أدون والاشتباكات أمام باب بيتنا وفي أي لحظة أتوقع دخول بعض الجند لنا، عندها كنت غالبا ما أقتل لأنني أكتب على الحاسوب، أو ليست الكتابة في أوطاننا الآن نوع من السلاح شديد الخطورة؟!

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

كنت حين أفرغ من كتابة فصل، أشعر أنني انتصرت لبلدي، لإنسانيتنا الضائعة، انتصرت لكل من نهبت بيوتهم واضطروا لأن يغادرون ذكرياتهم خلفهم تسيل أعينهم من الدمع حزنا. انتصرت لكل المجهولين الذي دفناهم بلا شواهد في الأزقة وجوار مدرسة البنات القديمة المسكونة، انتصرت لكل شاب أرغم على حمل السلاح تحت راية عميه لا يعرف عنها القليل، انتصرت لنا نحن جيل النكبة الذي وضع شهاداته الجامعية، ودخل السوق أو الجندية ليلاحق لقمة العيش. ثلاثة أشهر ونصف انتصرت أخيرا وكتبت كتابا أقرب للتوثيق حول ما حدث في 15 أبريل، ولا زلت أشعر أنني أريد أن أكتب بعد وأنه لا تزال هناك بعض المعارك التي ينبغي علي خوضها لأجل الوعي والفهم.

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة

لا يحب كثير من أهل أم درمان الرحيل عنها، فضلا عن النزوح البعيد واللجوء الأبعد، كانوا متمسكين بالبقاء حتى جاء الأوباش وطردوهم عنها بتهديد السلاح، فأم درمان مطبوعة داخل تلافيف الوعي والحنين والقلب. وحتى بعد تسعة أشهر من الحرب اكتشفت أن هناك أسرا لم تغادر بعدا وآثرت البقاء خفية في البيوت المهجورة وبعضهم تعايش مع التمرد، والموت المتوقع وسلم أمره لله وعاش وسط الخراب، على أمل أن يحيا لغد آخر، أو يتقدم الجيش ويؤمن المنطقة من عبث التمرد، أو يزورهم الموت وهم في أحضان أم درمان التي يحبون.

كم مرة لتغيير مواقع نومنا لأن الرصاص المرتد قريب، لا أذكر على وجه التحديد لكثرة حدوثه، لكنني أذكر جيدا أن خوفي الأكبر بعد خوفي على أخي كان على حاسوبي المحمول، تكونت بيننا رابطة خفية، صرت أغذيه بالكهرباء كلما جاءت وأدس فيه كل مخاوفي، وقلقي، ومشاهداتي اليومية بالنهار من على شاكلة:)

(بعد اشتباك دام منذ الصباح، وانسحاب الجيش والتمرد، دفنا الفتى عامل تلميع الأحذية، المسكين جاءته رصاصة اخترقت ظهره ونفذت من قلبه، دفناه جوار مدرسة البنات المسكونة، صار الذهاب للمقابر أمرا خطرا ومكلفا ويعرض الناس للاعتقال من الطرفين) (أغلق آخر محل بقالة في محطة عابدين، وتم نهب الفرن الوحيد المتبقي في العرضة، بيوت حي الأمراء بجنود التمرد الذين لم يدخروا جهدا في نهب كل ما خف حمله وغلى ثمنه، نهبوا كل شيء حتى أبواب المنازل)

مشاهد من القصف المدفعي في مناطق كانت مأهولة بالمدنيين سابقامشاهد من القصف المدفعي في مناطق كانت مأهولة بالمدنيين سابقا

(يسود هدوء حذر، وجاء الجيش مرة يمشط داخل حيينا ثم انسحب بسرعة) الكتابة تحت القصف، تعطيك رؤية إنسانية شديدة الدقة لما يدور حولك، ليس كما تصوره القنوات التي كانت تبث أحيانا خبرا عنا ونحن نشاهده ونقسم على أو تضخيمه أو تصغيره. عبر الكتابة اكتشفت أن والمقتول ، نعم فكل الجنود الصرعى يشبهون بعضهم، ويشبهوننا، هم أعمامي وأخوالي، أبناء قومي وأنا منهم، سودانيين سمر، لطيفين طيبين، وقساة عند النزال. عبر الكتابة أيضا انتصرت لهما معا، صالحتهما، جمعت سلاحهما وألقيته نهر النيل الجميل، وأقمت لهما حفلا كبيرا، غنى فيه صوت جميل من خلف الأفق (سوداني وجداني ... سوداني) غنى فيه محمد وردي (يا بلدي يا حبوب... أم جلابية وتوب... سروال ومركوب... جبة وسديري وسيف وسكين... يا سمح يا زين).

عبر الكتابة لم نكن بحاجة لأمم متحدة، ولا هيئات ولا منظمات ولا وسطاء ولا أي جهة توصف معنا او ضدنا، فقط احتجت لأن أحافظ على حاسوبي مشحونا، سالما، محفوظا ألا ينهب هو كأم درمان، كالسودان الذي كان أخضر وتحول بفعل الجهل إلى أحمر. نلت شرف التجربة واختبرت ما كان يقاسيه كبار الأدباء إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهم يكتبون تحت قصف المدافع وجلجلة أجراس الحرب وقصف الطائرات. لست بعظمة أولئك القوم ولكنني سعيد للحياة أن وهبتني الفرصة واختبرت مدى صلابة الانسان الذي كنت أحمله بين جوانحي.

أكتب لكم من قلب الحرب..سلامي وأشواقي للحياة
النور عادل

النور عادل

كاتب.. مؤلف..وروائي

ببساطة أنا شخص محب للكتابة والقراءة الحرة بصورة عامة إذ أجد فيها وعبرها متنفساً لمخاوفي وشكوكي وقلقي المزمن منذ وعيت الحياة. الكتابة بالنسبة لي ليست مصدر رزق أو باب شهرة، بقدر ما هي غرفة وحديقة خلفية أحب الدخول إليها كلما عصفت بنا أعاصير اليومي وانتشرت جحافل التضليل الحديث.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ