كيف يؤدي سُبات الوعي إلى غشاوة الإدراك؟ مخاطر التفاهات الرقمية

كاتب

"الانحراف نحو ما هو ثانوي وغير مُجدٍ يصبح كارثة حقيقية عندما يكون الوطن على شفا الهاوية".
عندما يتنكر الوعي للواقع، يصبح جَهل الشعوب بالواقع أكبر وأخطر أنواع الآفات التي تفتك ببنية المجتمعات وتعرقل مسيرتها نحو الاستقرار الحقيقي والتنمية المستدامة، إن الانسياق الجماعي وراء الأمور الصارفة والتفاهات، وتضخيم المحتوى السطحي والزائل، هو سلوك عبثي يُصوّر الموقف تماماً كما لو أننا "نَلهو بألوان الدخان البراقة بينما ينهار المنزل بالكامل من حولنا".
هذا الانسحاب الإرادي واللاواعي من إدراك الواقع المؤلم، والتخلي عن التركيز على القضايا المصيرية والجوهرية، هو ظاهرة تستدعي ليس مجرد التأمل العابر، بل المراجعة الجادة النقدية والفورية لحالة الوعي الجمعي في المجتمع.
أزمة الإدراك والهروب من المواجهه
إن هذه الظاهرة الـمُقلقة ليست حِكراً على شعب أو مجتمع دون غيره، بل هي مرض حضاري يهدد مجتمعات كيانات كثيرة. ولكني أود أن أسلط الضوء بشكل خاص على "مجتمعنا السوداني" في هذا التوقيت الحرج.
نجد أنفسنا في حالة متفشية من الغياب عن الواقع وسُبات إدراكي عجيب ومُخيف، يكاد يطغى ويشمل كل فئات المجتمع، بما في ذلك الفئة المتعلمة والمثقفة التي يُفترض بها أن تكون صمام الأمان ومركز الإشعاع والقيادة.
يتجلى الخطر في الحال السوداني المؤلم بوضوح، بينما تخوض البلاد حرباً طاحنة لا ترحم، تفتك بالبشر والحجر وتُخلّف وراءها خسائر اجتماعية واقتصادية وإنسانية هائلة لا تُعد ولا تُحصى، يلاحظ كل متابع حصيف للشأن العام أن شريحة واسعة ومؤثرة من المجتمع تنجرف بكل قوتها نحو الاهتمامات الثانوية وحتى التفاهات الرقمية، التي لا تُقدم للمجتمع شيئاً سوى التخدير المؤقت للضمير الجمعي وتسكين القلق العابر.
يحدث هذا الهروب العبثي بدلاً من توحيد الصفوف وتكثيف الجهود وتضافرها لوقف هذا النزيف المُرعب للحرب، وإغاثة الملايين من المتضررين والمشردين، والأهم من ذلك: التخطيط المستقبلي العاجل والمُحكم لمرحلة ما بعد الأزمة، وهي المرحلة التي تتطلب أقصى درجات الوعي والتنظيم، في هذه اللحظات المصيرية، نجد أن الجزء الأكبر من الاهتمام المُعلَن والمنصَبّ يتركز على قضايا هامشية، وخلافات شخصية واجتماعية تافهة، والترويج للمحتوى السطحي الهدّام للقيم والأخلاق العامة.
"إن هذا الإنفصال التام والمُتعمّد عن الواقع ، بكل قسوته، يساوي في خطورته التواطؤ مع استمراره وتفاقمه".
التركيز على هامش الامور وفقدان البصيرة
إن الخطر الأكبر لا يكمن في مجرد وجود السطحية والتفاهات كظواهر اجتماعية بحد ذاتها، بل في قبولها كبديل رئيسي عن الواقع وتقديمها عمداً على القضايا المصيرية والوجودية للوطن.
إنها أشبه بعملية استبدال مُنظّمة للوضوح بالضباب الكثيف، بحيث تنعكس الأولويات تماماً؛ فيُستهلك كل الجهد والوقت والطاقة الذهنية والمالية على ما لا يُجدي ولا ينفع الوطن أو الفرد، بينما تبقى القضايا الكبرى والمُهدِّدات الأساسية تتفاقم وتنمو في الظلام.هذا التركيز المُفرط على الهامش يُمثل في جوهره فقداناً للبصيرة الجماعية وتغييباً منهجياً للوعي الجمعي. إنه يُظهر بوضوح كيف يمكن للألم المُفرط والصدمات المتتالية أن تدفع بالبعض إلى حالة من الإنكار الإدراكي، حيث يختار العقل الباطن بشكل غريزي الهروب إلى مواضيع وأمور سطحية لا تُثير القلق، لأنها أقل إيلاماً ووطأة من مواجهة المرارة الحقيقية للواقع. للأسف، هذه الظاهرة هي مرآة صادقة تعكس حالة كثير من شعوب العالم التي تختار دائماً مسار الهروب السهل المؤقت بدلاً من مسار المواجهة الصعبة والمُنتِجة لواقعها الحرج.
الوعي فعل مقاومة و واجب وطني

الخلاصة القاطعة، لا يوجد منفذ آمن للشعوب من هذه الدوامة المُهلكة سوى الوعي اليقظ والمسؤول.
يجب على كل فرد أن يستوعب بعمق أن واجبه الأساسي والأخلاقي هو الانخراط الفعّال والإيجابي والمُنتِج في قضايا وطنه المصيرية والوجودية. الوعي، في هذا السياق، ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو فعل مقاومة حقيقي وفعّال ضد كل أنواع الإلهاء، وإصرار لا يتزعزع على التركيز على الجوهر بدلاً من القشور والهامش الزائل.إن ضرورة أن يكون الشعب مدركاً وواعياً بشكل جماعي هي حقيقة لا تقبل الجدال أو المساومة، لأنه بذلك الوعي فقط يستطيع أن يُوجّه ضغطاً حقيقياً باتجاه الحلول الجذرية، وأن يطالب بحقوقه كاملة غير منقوصة، وأن لا ينساق أبداً إلى الأمور غير المُجدية التي تُبقي نيران المشكلات الأساسية مُشتعلة وخامدة تحت رماد الغفلة واللامبالاة.
إن النجاة وبداية التعافي لا يمكن أن تتحقق إلا بلحظة إدراك جماعية بأن الحقيقة، بكل ما فيها من ألم، هي أهم وأبقى من التسلية الزائفة، وأن الواقعية المُنتِجة هي أهم وأقوى من الزيف العابر والوهم اللحظي.