جمال الاعتراف: "إذا رأيت شيئا جميلا في الآخرين أخبرهم بذلك"
كاتبة
سافرت ذات يوم، وعند وصولي لمحطة المدينة كان الوقت متأخرا، ولأننا تربينا في قرية فإن غروب الشمس تعني غروبنا و دخولنا لمنازلنا، فأحسست بنوع من الخوف اللطيف ممزوجا بشجاعة مشاغبة، فمررت بجانب شرطي كان واقفا ينظم حركة السير لسيارات الأجرة، فجاءني صوت بداخلي مرددا ارجعي إليه وقولي له هذه الكلمات " إن وجودكم يجعلنا نحس بالأمان" ، قاومت هذا الصوت كثيرا ، لكني استسلمت له ورجعت متوجهة إليه، في وسط الكثير من الفوضى وضجيج السيارات وكثرة البشر، فسلمت عليه وقلت له "اسمح لي أن أقول لك شيئا" قال تفضلي وهو يبتسم كأنه قرأ في عيناي ما كنت أرغب في قوله فقلت كلماتي ، فانبهر بها وتملكته طاقة فخر واستعداد للعمل والتضحية، هنا استغربت وتساءلت عن الكيفية التي يمكن من خلالها للكلمات والاعترافات الصادقة أن تصنع الإنسان وتغير رؤيته لذاته وللعالم؟
دعني أسألك متى كانت آخر مرة سمعت فيها شخصا يخبرك عن صفة جميلة فيك؟ هل تستطيع أن تقوم بعد الأشخاص الذين مدحوك يوما؟ ما العبارة الجميلة التي سمعتها من أحدهم وما زالت تتردد في أذنيك كأنها قيلت لك للتو؟ هل قام أحد بتشجيعك ودعمك دائما؟ أم أن هذا النوع من الأشخاص غير موجود بدائرة المحيطين بك؟
إن التعبير والاعتراف بالجمال في الآخرين هو عمل بسيط، لكن له تأثير عميق.فستدرك أن للكلمة قوة عندما ترى كيف تبني الإنسان أو تدمره، فثقافة الاعتراف بجمال الآخرين ونقاط قوتهم تكاد تكون منعدمة في البيئة المحيطة بنا، وفي المقابل نجد فن جرح الآخرين، وفن النقص من قيمتهم والتركيز على نقاط ضعفهم وأخطائهم، وعندما تسأل الأشخاص عن السبب وراء عدم الاعتراف بما يعجبهم في الآخرين يجيبون بأن ذلك سيجعلهم يتفاخرون ويعجبون بأنفسهم ويتكبرون، ربما يكون هذا صحيحا مع الأشخاص المغرورين الغير الواعيين ، لكن هناك أشخاص يستحقون سماع كلمات عن مدى لطفهم ، وعن مدى تعاطفهم، وعن تضحياتهم، هنا لا يستطيع أن يعجب إلا بقيم إنسانية نبيلة، وفي المقابل سيدفعه ذلك إلى التشبث بالصفة والاحتفاظ بها ونفع الآخرين بها، ولا بد أن يكون الإنسان واعيا ويعرف لمن يعترف ولمن لا يستحق الاعتراف، ولا تبخل على إنسان تألم كثيرا في الحياة ولم يتبقى له سوى كلمات من الأمل يهوى سماعها من أحدهم.
إن قدرة التقاط نقط الجمال والقوة عند الآخرين والتعبير عنها، ليس بالأمر السهل، فهذه المهارة لا يملكها عامة الناس، فهي تحتاج لشخص يملك الإحساس بالجمال والرضا عن الذات والثقة بنفسه، يعلم تماما أن اعترافه لا ينقص من قيمته شيئا بل العكس من ذلك يساعد الآخرين بقدرته هذه على إدراك إمكانياتهم، واستخدام هذه الإمكانيات في نفع الشخص لنفسه وأهله ومجتمعه، فاعترافك بنقاط قوة الآخرين هو مساهمة لك في تحسين المجتمع والاستفادة من إمكانيات الآخرين المتميزة.
أتصور كيف سيكون مجتمعنا عند ستنتشر ثقافة الاعتراف بجمال ونقاط قوة الآخرين، وهذا لا يمنعنا من التقاط نقاط ضعفهم كذلك بنية المساعدة، وإخبارهم بذلك بأسلوب أكثر تعاطف وتوازن، وكيف سيكون صباحك عندما تلتقي بشخص ما يعرفك ويقول "يا لها من يوم جميل عندما يبدأ برؤية وجهك"، وكيف سيكون الحال بين الأزواج إذا كان كل واحد يرى جمال الآخر ويمدحه به، وكيف ستكون علاقتك بالكون وأنت تلتقي مع الطبيعة فتخبرها عن جمالها وسحرها بقلب ممتن، وكيف ستكون علاقتك بذاتك وأنت تشجع نفسك على المضي قدما بثقة في الحياة، لأن هناك ربا يدبرها، أتدري ليس هناك أجمل من أن ترى تفاصيل وجه شخص قمت بالاعتراف له بجمال إنسانيته وبروعة صفاته.
إن السبب المتعلق بالجانب النفسي لعدم اعتراف الآخرين بنقاط الجمال في شخصيتك، هو " الخوف" من أن تكون أحسن منهم، فلا أحد يرغب في أن تكون أفضل منه سوى أبويك (في كثير من الأحيان)، وهنا أريد أن تكون واعيا بأنك ربما تكون من الأشخاص الذين لا يعترفون للآخرين بما يجدهم متميزا فيهم، وبالتالي من أساليب نشر ثقافة معينة، أن نبدأ بأنفسنا لا أن ننتظر الآخرين الذين لم يجدوا في بيئتهم ما يعزز هذه الثقافة.
كيف تؤثر ثقافة الاعتراف بنقاط الجمال في الآخرين؟
لقد التقطت صفة مميزة في إحدى أخواتي، وكانت صفة "الالتزام"، فعندما تريد القيام بشيء ما، أرى فيها الإصرار على فعله والالتزام بالاستمرار في القيام به، لكن هي لم تكن واعية بوجود هذه الصفة في شخصيتها، فأخبرتها بذلك بشكل منبهر ، وأن هذه الصفة هي سر النجاح في أي مجال، ويسهل عليها الوصول لمراتب أكبر بفضلها، إذا قامت باستثمارها في المجال المناسب، فاندهشت وأصرت على تحقيق أهدافها، بعد ما فشلت همتها على النهوض وتحقيق ما تطمح إليه، واليوم أدهشتني بالنتائج التي وصلت إليها، في إتقانها لغة أجنبية صعبة، ومن حفظها للسور القرآنية الكبيرة، ومن التزامها بالصلاة في كل أوقاتها، ومن التزامها بالبقاء مركزة على أهدافها، لدرجة أنها لا تملك الوقت للحديث عن التفاهات والانشغال بالترهات، فتأثير ملاحظاتك الصادقة على الآخرين يجعلك فخورا بإنسانيتك التي تحب الخير للآخرين، ربما لن يعرفوا قيمة ما فعلت، وينسبون كل ما أنجزوه لأنفسهم، متناسين تماما الشخص الذي قام بكشف كنز بداخلهم لم يدركوا بوجوده، لكن الهدف من الاعتراف بنقاط قوة الآخرين ، لا يجب أن يكون الهدف من وراءه انتظار شكرهم وتقديرهم الدائم لك، بل يجب أن تفعل ذلك وتمضي، كأنها رسالة أديتها فلا تنتظر شكرا من أحد، ومع الوقت ستدرك لماذا.
عزيزي القارئ، وعزيزتي القارئة، إن السبب في المشاكل التي تحدث بين طرفين في العلاقات المختلفة، هي بسبب عدم التركيز على محاسن الشخص بدلا من التركيز كل الوقت على عيوبه، فعلى الإنسان أن يكون عادلا في حكمه على الآخر، فكما تلتقط العيوب التقط معها المحاسن، ليسهل على الشخص تقبل ملاحظاتك، لأنه يعلم جيدا أنه كما تركز على عيوبه تستطيع في نفس الوقت أن تركز على محاسنه، وأن النقد بهدف الإصلاح لا يعني غياب التقدير، باختصار " التركيز على العيوب لا يعني تجاهل المحاسن".