لم تكن القراءة يوما جزءا من روتيني اليومي، ولو أكن أدرك قيمتها إلى أن التقيت بأحد أساتذة مادة الفلسفة.غير نظرتي للقراءة بشكل مدهش، كان يؤمن أن الكتب ليست أوراقا تقلب بل نوافذ نطل منها على عوامل لا نعرفها، كان يأتي إلى قاعات الدرس محملا بالكتب، يدفعنا بلطف وإصرار إلى أن نقرأ لأنه أدرك القيمة الحقيقية للمعرفة ومدى قدرتها على أن تنقل الإنسان من عالم محدود إلى فضاء واسع من الأفكار والتجارب.
ذات يوم، حين أخبرته أنني لا أستطيع أن أجعل القراءة عادة دائمة، ابتسم وقال " ابدئي بما تحبين، وستجدين نفسك بعد ذلك تحبين ما تقرئين".كانت تلك الجملة البسيطة بداية رحلة مع الكتب، الرحلة التي جعلتني أكتشف أن القراءة ليست ترفا فكريا، بل وسيلة لفهم العالم من حولنا وفهم أنفسنا أيضا.

حين لا يقرأ الإنسان يصبح فكره انعكاسا لما يراه ويسمعه من الآخرين، لأنه يفقد المصدر الذي يغذي روحه بالمعرفة فيتشكل وعيه على صورة محيطه، ويسير خلف الناس دون أن يدرك إلى أين، ويضيع شيئا فشيئا ملامح ذاته الحقيقية.
أما القراءة فهي التي توقظ الروح وتنقي الفكر، فالكتب التي مررنا بها حتى لو نسينا سطورها تبقى ساكنة فينا، فتظهر في طريقة كلامنا، وفي نظرتنا للأشياء، وفي هدوء ملامحنا،إنها تترك فينا آثرا لايرى لكنه يعيش فينا إلى الأبد.
إن القراءة هي الجسر الذي يعبر بك نحو نضج لا يحتاج إلى عثرات كثيرة، فهي تختصر لك أعمار الذين سبقوك وتمنحك عصارة تجاربهم دون أن تعيش آلامها أو تكرر أخطائها، في كل كتاب تقرأه تنفتح أمامك حياة جديدة وأفق أوسع، وفهم أعمق للإنسان والعالم.ومع مرور الوقت تجد أن القراءة أضافت إلى عمرك أعمارا أخرى من الحكمة والخبرة حتى تصبح أكثر وعيا وأكثر قدرة على التمييز بين الطريق الذي يهديك والطريق الذي يضيعك.
علينا أن نتذكر أن هناك من سبقونا في خوض تجارب الحياة، وأفنوا الكثير من جهدهم ليجمعوا خلاصة خبراتهم ويضعوها بين دفتي الكتب.لو حاولنا نحن أن نكتشف العالم من الصفر لاحتاجنا إلى سنوات طويلة من التجربة والخطأ، لكن أصبح بإمكاننا أن نرى العالم بعين أكثر فهما، ونستفيد من حكمتهم دون أن نضيع في متاهات التجربة.فالقراءة إذن ليست مجرد تسلية بل هي الجسر الذي يربطنا بالمعرفة وتجارب الآخرين، ويمنحنا فرصة لنعيش حياة أعمق وأكثر حكمة.