
لو تأملنا سيرة الكائنات لوجدنا أصدق مثل على جمال الصبر وعظمته، فالنبات يشق طريقه في صمت من بطن الأرض، والفرخ يخرق قشر البيضة بمثابرة لا تملّ، كلها تروي قصة واحدة: أن الحياة لا تهبط نضجاً واكتمالاً، بل تكتسب لحظة بلحظة بخطوات وئيدة وقلب ثابت.
وليس الصبر جلداً على المصائب فحسب، بل هو فن رفيع ومهارة حياة لا يتقنها إلا الأوابون، فمن الصبر وقفة العاقل عند حد الغضب، واحتساب الأجر في ساعة البلاء، والتأني في طلب العلم والمعرفة، والرضا بقدر الله وقضائه، هو باختصار أن ترى في كل عقبة سلماً، وفي كل ظلمة ضوءأ، وفي كل انكسار بذرة لنهضة جديدة.
وأجمل ما في هذا الفن أنه لا ينفصل عن الأمل، فالصبر والرجاء كجناحي طائر، لا يرتفع إلا بهما، والحكمة تقول: ليس الصبر أن تصمت عن الكلام، بل أن تحتفظ ببسمتك وأنت تنتظر الفجر بعد ليلة طويلة.
إن اتقان المرء للصبر يعلمه أشياء كثيرة: اللطف المسير في الشدة، رقة المعاملة في ساعة الغضب، وقوة الهدوء في وسط العاصفة، وسر هذا كله أن من يتقن الصبر يعرف أنّ الفرج آت لا محالة، وأن الورود لا تزهر إلا بعد عدة شهور من البرود والمطر.
فلنتعلم هذا الفن الجميل، فنصبح كالغصون نميل مع الريح ولكننا لا ننكسر، ونثق أن شمس الغد ستشرق حتماً، لأن الصبر مفتاح كل باب مغلق، وهو القوة الخفية التي تحملنا من ظلمات اليأس إلى النور.
أ- فنون الصبر ثلاثة:
أولاً: الصبر على الطاعة:
وهو أن يجاهد المرء نفسه ليديم العمل الصالح، ويتغلب على كسله وملله، كصبر التلاميذ في طلب العلم، وصبر المصلين على قيام الليل.
ثانياً: الصبر عن المعصية:
وهو أن يقيم الإنسان حصناً حول نفسه يمنعه من الانجراف وراء شهواته وغضبه، كصبر الصائم عن الطعام والشراب، وصبر الغاضب عن الانتقام.
ثالثاً: الصبر على البلاء:
وهو أن يرفع المرء رأسه فوق أمواج المحن، مؤمناً بأن وراء الأفق المظلم فجراً مشرقاً، كصبر الأم على مشاق التربية، وصبر المبتلى على الأسقام.
ب- مراحل تمكّن الصبر في النفس:
- مرحلة الكظم: حيث يكبت المرء غضبه وأحزانه كظماً، وهو باب الصبر الأول.
- مرحلة التجمّل: أن يتجمل المرء بالصبر وهو في أعماق المصيبة، فلا يبدي على وجهه مايزعج قلوب من حوله.
- مرحلة الرضا: وهي الأسمى، حيث يرى المصاب أن المصيبة هدية من الحكيم الخبير، فيسكن قلبه لها.
جـ-ثمرات الصبر:
- النضج في الشخصية: فالصبر يصنع من الإنسان شخصاً أروع، أقوى، وأحكم.
- طمأنينة القلب: لأنه يصل بصاحبه إلى مرحلة التوكل على الله والرضا بقضائه.
- محبة الله والناس: فالصابرون هم أقرب الناس إلى قلوب الخلق، وأحبهم إلى خالقهم.
وبالتالي فالصبر ليس جلسة انتظار سلبية، بل هو رحلة عمل دؤوب بقلب مطمئن وعقل مستبصر، هو أن تبني، وأن تتعلّم، وأن تنمو بينما أنت تشقّ طريقك نحو ضياء الغد.
